[إسلام ابن مسعود]
ومن السابقين الأولين: عبد الله بن مسعود، وهو هذلي، كان يرعى الغنم، نحيف الجسم، يقولون: كان جسمه إذا قام يعادل الجالس إذا جلس، أي: وأنت جالس وهو قائم يعادل رأسك، وكان نحيف الجسم جداً، حتى صعد مرة يأخذ سواكاً للرسول عليه الصلاة والسلام من شجرة، فهبت الريح، فاهتزت الشجرة وعليها ابن مسعود كالصقر، فأخذ الصحابة يتضاحكون من خفته ومن دقته، فقال صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه! والذي نفسي بيده، إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد}.
ولذلك ترى بعض المجرمين مثل السارية وهو مجرم لا يساوي عند الله فلساً، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:٤] ويقول حسان في بعض المجرمين، لما رآهم طوالاً، قال:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
أسلم ابن مسعود وكان له لقاء تاريخي مع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، خرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وفي أثناء الطريق وإذا راعي هذا الضأن يرعى -وهو ابن مسعود - لهذيل، وهذيل قبيلة قريبة من البحر الأحمر، فاقترب صلى الله عليه وسلم، فقال: يا غلام! أفي غنمك حلوب؟ فقرب لهم، وقيل: قرب لهم حائلاً؛ فدعا صلى الله عليه وسلم فحلب بإذن الله، فقال له ابن مسعود: علمني يا هذا مما تعلم؟ سمع دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم: {إنك غلام معلم} ثم ذهب صلى الله عليه وسلم، ولما عاد أسلم ابن مسعود رضي الله عنه وأخذ من فم الرسول صلى الله عليه وسلم سبعين سورة مباشرة.
وكان جميل الصوت، يقول مسروق بن الأجدع: [[استمعت لـ ابن مسعود وهو يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] في صلاة المغرب، والله ما سمعت صنجاً، ولا ناياً، ولا وتراً، أجمل من صوته، وودت أنه قرأ بنا بسورة البقرة]].
كان صلى الله عليه وسلم يقول: {اقرأ عليّ القرآن، قال: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري -يقول: أنا أتلذذ بالقرآن من غيري- فبدأ يقرأ سورة النساء، حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:٤١] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن، يقول ابن مسعود فنظرت؛ فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام}.
قام ابن مسعود يقرأ سورة الرحمن عند المقام، وأبو جهل جالس هو وكفار قريش فأخذ يرفع صوته ويقول: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإنسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:١ - ٥] هل يستطيع بشر أن يقول مثل هذا الكلام؟
هل سمعتم أجمل من هذه العبارات؟! (الرَّحْمَنُ) (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (خَلَقَ الْإنسانَ) (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) فقام أبو جهل؛ فأخذ يضربه على وجهه بيده، وابن مسعود لا يتوقف يندفع يقرأ ويضربه ويضربه ثم أخذ بأذنه وجعل يطوف به في الحرم.
فلما أحق الله الحق، وأتت معركة بدر، حضرها ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فلما قتل أبو جهل وأصبح في الرمق الأخير، أتى ابن مسعود ومعه سيف؛ فأخذ يحز عنق أبي جهل، قال أبو جهل: سيفك هذا لا يصلح، خذ سيفي، يريد أن يريح نفسه بالموت؛ لأنه مطعون ودمه يسيل، فأخذ سيف أبي جهل وصعد على صدر أبي جهل، قال أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم، يقول: تصعد على صدري، فلما حز رأسه أتى برأسه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يسحبه بخيط في أذنه، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: {هذه بتلك} وقيل في بعض الروايات: {الأذن بالأذن والرأس نافلة} يقول: سحبك بأذنك في الحرم، وأنت تسحبه الآن بأذنه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {هذا فرعون هذه الأمة} قالوا: يا رسول الله! كيف نعرف جثته؟ قال: {تعرفون جثته بجرح في ركبته، فإني تصارعت أنا وأبو جهل ونحن شباب على مائدة عبد الله بن جدعان في مكة؛ فصرعته في الأرض فهو مجروح في ركبته} فأتوا إلى ركبة أبي جهل وإذا فيها آثار جراح، فسحبوا جثته فلما ألقي في القليب قام عليه الصلاة والسلام فيهم ثم قال: {يا معشر قريش! هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا فقال عمر: يا رسول الله! ماذا تحدث من جثث لا حراك بها؟ قال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم}.