يأتيه وفد بني عامر بن صعصعة من العراق، فكلهم يهيئ في نفسه مقالة مدح وإطراء، فيقفون أمامه، ويقول قائلهم يخاطب المصطفى صلى الله عليه وسلم:{أنت سيدنا وابن سيدنا، وعظمينا وابن عظيمنا، أفضلنا فضلاً، وأطولنا طولاً} وظنوا أن هذه البضاعة تباع في سوقه صلى الله عليه وسلم، هذه البضاعة لا تذهب عنده، هذه دراهم بُهْرُجٍ مزيفة، لا تنفع إلا عند الدجالين والأقزام، أما من أسَّس مجده على (لا إله إلا الله) وبنى حضارته على (الله أكبر) وأرسل ثقافته على (الحمد لله) فهذه البضاعة لا تذهب عنده، فقال:{مَهْ؟! -أي: ما هذا الكلام؟ ما هذا الدجل؟ ما هذا السَّفَه- مَهْ؟! يا أيها الناس قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله}.
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكمُ
حضرته سكرات الموت، فيتواضع حتى في سكرات الموت، يقول:{لا إله إلا الله، اللهم هون عليّ سكرات الموت، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد}.
وسيماء التواضع ظهرت عليه، إنسانٌ يغير العالم، ويحدث حدثاً باهراً في المعمورة، لا يشبع ثلاثة أيام متوالية من خبز الشعير، يلبس المرقع، وأمته تجبي كنوز كسرى وقيصر، يجلس على التراب، وقواده يسكنون في القصور، ووُرَّاثه يفتحون المدائن والدور، والحبور والسرور.
يجلس مع الجارية، ويحمل البنت على كتفه في الصلاة، ويأخذ الطفل من أمه ويضعه في حجره، ويمسح على رءوس الأيتام وهو يبكي، وصح في أحاديث أنه يحلب الشاة، ويخسف النعل، ويرقع الثوب، ويكنس البيت، ويقطع اللحم مع أهله.