للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أرجح المكاسب]

ثم مضى ابن تيمية يتكلم إلى أن قال: "وأما أرجح المكاسب -هذه الفقرة الثالثة- أما أرجح المكاسب" أيها الإخوة! ورد عند الحاكم والبزار بسندٍ صحيح عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه وأرضاه {أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أطيب الكسب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: عمل الرجل بيده، وكل بيعٍ مبرور} واختلف أهل العلم في أشرف المكاسب، فقال بعضهم: الزراعة، وهذا القول للشافعية، وبعضهم قال: التجارة، فإن تسعة أعشار الرزق من التجارة، وبعضهم قال: بل من عمل اليد، لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {ما أكل أحد أفضل ممن يأكل من كد يده، وإنَّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده}.

فقد كان داود عليه السلام حداداً، يحد، ويصنع السروج، حتى قال كعب بن زيد في قصيدته، كان ينسج دروعاً:

شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيلُ

قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:١٠] يقولون: كان الحديد بيد داود -بقدرة الواحد الأحد- مثل العجين، يأتي بالحديد الفولاذ فيلفه كالعجين، يفعل به ما أراد {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١٠ - ١١] ما معنى "وقدر في السرد؟ " قالوا: اجعل المسمار على قدر الحلقة، لأنه يجعل المسامير في الحلق، يقول: لا تكبر المسمار فلا يدخل في الحلقة، ولا تصغره فتقضمه الحلقة وينكسر.

وكان آل داود عددهم ستة وثلاثون ألفاً، كلهم لا يأكلون إلا من كسب أيديهم، داود كان ملك الدنيا، وأكثر ملك الدنيا له، لكن لا يأكل إلا من كسب يده، من الحدادة، وكان زكريا عليه السلام نجاراً، وكان إدريس خياطاً، يقولون: كان إدريس لا يدخل الإبرة ويخرجها إلا يقول أربع كلمات، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، حتى قال له الله: {يا إدريس أما تدري لماذا رفعتك مكاناً علياً؟ -لأن الله يقول: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:٥٧]- قال: ما أدري يا رب! قال: يرتفع إليَّ من عملك كل يوم، مثل نصف أعمال أهل الدنيا، من كثرة الذكر} وهو جالس يخيط ويقول: سبحان الله فترتفع أعماله، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] وقال الحافظ ابن حجر: وأرجح المكاسب وأحسنها هو الجهاد في سبيل الله والغنائم، وأكثر رزق الرسول عليه الصلاة والسلام من الغنائم في سبيل الله، وأكثر ميزانيته في الدولة الإسلامية من الجهاد في سبيل الله، وعند أحمد بسندٍ صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {بعثتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم} حديثٌ صحيح، والشاهد {وجعل رزقي تحت ظل رمحي}.

فالجهاد أشرف ما يمكن أن تكسبه، ولكن يقول ابن تيمية: "أما أرجح المكاسب فالتوكل على الله" ما شاء الله، جاء بجواب لأهل القلوب، يقول: "التوكل على الله، فإنه يرزق من يشاء سبحانه" مثل ابن تيمية كان فقيراً ليس عنده مرتب، ولا إعاشه، ولا سيارة، ولا بيت، ليس عنده إلا غرفة في طرف المسجد فيها مكتبته، وعنده ثوبان، إذا اتسخ أحد الأثواب غسله وغير بالثوب الثاني، وطول يومه وهو في الجهاد والدعوة، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخطابة والإفتاء، وإقامة الحدود وقمع أهل البدع والمشركين، فلذلك قال: التوكل على الله، والثقة بكفايته، يقول تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:١٧] لا يرزق إلا الله.

قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: رأى أحد العباد عصفوراً يقبل بقطعة لحم كل يوم، ويدخل بها في نخلة، قال: فعجبت، لأن العصفور في العادة لا يعشعش في النخل!! قال: فتسلقت النخلة، فرأيت فيها حيةً عمياء، فإذا اقترب العصفور، أحدث لها صوتاً، يخبرها به لأنها عمياء -أعطاها إنذار مبكر أنه اقترب- فتفتح فمها، فيضع اللحم في فمها ويعود، فمن الذي علم العصفور أن يعطي الحية إلا الواحد الأحد حية عمياء في رأس نخلة، سخر لها عصفوراً يأتي برزقها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:٦].

ودل النملة أن تدخر قوت الشتاء في الصيف، فتجدها في الصيف لها مخازن في بيتها، تكدس ولا تأكل من هذه المخازن، ومملكة النمل مثل مملكة النحل، لها عاملات وملكة وشغالات، هذه الشغالات مهمتها نقل الحبوب يقولون: وخوفاً من أن تنبت الحبة، علمها الله الذي علم كل شيءٍ خلقه ثم هداه أن تخرم الحبة، فتحدث خرماً في وسط الحبة فلا تنبت، ولذلك حب النمل لا ينبت أبداً، فلو أخرجته من جحرها وذريت به الأرض فإنه لا ينبت، لأنه أصبح غير صالح للإنبات، بل للإدخار.

وللفائدة يذكر ابن القيم في كتاب مفتاح دار السعادة: أن نملةً كانت تخرج مع النمل تأخذ رزقها فرأت رجل الجرادة مرمية في الأرض، فأخذت تسحب رجل الجرادة فما استطاعت، فذهبت -وهذا من كلام ابن القيم والعهدة عليه- فذهبت إلى بيتها وأخبرت الشغالات ليعاوننَّها فجاء النمل وكان هناك رجل جالس يتدبر في خلق الله، فأخذ رجل الجرادة، فأتوا فبحثوا في المنطقة فلم يجدوا رجل الجرادة، فعادوا، فلما عادوا وقفت هي، فرد رجل الجرادة، فأتت تزعزعها فما استطاعت، فذهبت فأخبرت الشغالات فرفع الرجل الجرادة، فذهبوا ووقفت فردها، فزعزعتها فما استطاعت، فذهبت فأعطتهم خبراً، فأتوا فرفع رجل الجرادة، فاجتمعوا عليها جميعاً فقطعوها قطعةً قطعة، لأنها كذبت ثلاث مرات، وهذه القصة في مفتاح دار السعادة راجعوها إن شئتم وهي لـ ابن القيم رفع الله منزلته، والله يقول: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠].

يقول الزمخشري: لله دره من جواب! من صاحب الجواب هذا؟ إنه موسى رد بها على أحد الطغاة، يقول: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٤٩ - ٥٠] يقول: أنت يا ضعيف! يا خسيس! يا مجرم! تعطي كل شيءٍ خلقه، وتهدي!!! ولذلك سيد قطب نسي نفسه عند قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:١ - ٣].

وأتى ينقل من كتب كريسي موريسون وغيره، عن أمور عجيبة لا أحب أن أطيل فيها، وللإنسان أن يراجعها في المجلد السادس في الظلال، عند هذه السورة.

يقول ابن تيمية: "وأما أرجح المكاسب فالتوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به" لكن يا أيها الإخوة وقد نُبه كثيراً، أن بعض الناس يفعل مثل توكل الصوفية، يأخذون لفائف ولا يغتسلون ولا يبحثون ولا يطلبون الرزق ويجلسون في المسجد، ويقولون: الرزاق هو الله، هذه حطمها عمر بن الخطاب، لأنها أسطورة كاذبة.

[[دخل عمر رضي الله عنه -والقصة مشهورة- المسجد فوجد شباباً يتعبدون وعمر ليل نهار وهو يبحث ويرتب الجيش للجهاد، ويعدل بين الناس، ويقيم الموازين، ويصلي ويحكم بين الناس، ويفض في النزاع، فقال للشباب: من أنتم؟ قالوا: عبادٌ نعبد الله، قال: من أين يأتيكم الرزق.

؟ قالوا: الله يرزقنا.

قال: أدري أن الله يرزق لكن من الذي يقدم لكم الطعام والشراب؟ قالوا: جيرانٌ لنا ومحسنون، قال: انتظروا -لم تكن عصاه معه، وكانت قريبة في البيت، فذهب وهي جاهزة عند الباب- فذهب إلى الدرة فأخذها -سلم الله الدرة- فأخرجها وأتى -يظنون أنه سوف يأتي بكبسة رضي الله عنه- فلما دخل أغلق باب المسجد، ثم نزل عليهم ضرباً، وقال: اخرجوا إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة]] أما أن تتكدس المساجد بعشرات من أهل العطالة والبطالة، ومئات الشباب، وتبقى الورش والمكاتب والوظائف والمصانع والمزارع والمتاجر والدكاكين فوضى، فهذا لا يصلح؟ ولذلك بعض الآباء يشكون يقول أحدهم: ابني صالح، مع زملائه يزورهم في الله، لكن الدكان ليس فيه أحد، وعندي مزرعة، وسيارة، ومقاضٍ وعندي أبناء وبنات يريدون المدرسة لا يوصلهم، ولا يجلس في الدكان، ولا يساعدني في المزرعة، يعبد الله فقط.

ونقول: ليست هذه عبادة، أن تزور زملاءك بعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء وبعد الصبح!! بل هذا ضياع للوقت فاجلس مع أبيك، واستقم معه، وعاونه، واجعل لحضور الدروس وقتاً، ولمعاونة والدك وقتاً، فالإسلام لا يعترف بالبطالة.

قال: "وأرجح المكاسب التوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به -ثم أتى بالحديث-: {يا عبادي! كلكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم}.

ثم نأتي إلى الفقرة الرابعة:

<<  <  ج:
ص:  >  >>