للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[فضل علم الحديث وأهله]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أمَّا بَعْد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته؛ سلام الله عليكم يا أصحاب الحديث، ويا أهل الحديث، وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى ثم أشكر مدير هذه الدار، ثم أشكر هيئة التدريس، وأشكركم يا طلبة العلم.

وأنا أشهد الله أني أحبكم فيه؛ أما الحب الأول فهو مشترك بين المسلم وأخيه؛ وهو الحب الذي يعيشه المسلم مع إخوانه المسلمين، وأما الحب الثاني الذي أشعر به في قلبي وأنا أدخل هذه الدار؛ فهو حب أهل الحديث، والسرور برؤيتهم والجلوس معهم، وأهل الحديث لهم مكانة في القلوب، ولهم جلالةٌ في النفوس.

وسوف نتكلم على أهل الحديث، من هم أهل الحديث؟

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: إذا رأيت محدثاً، أو رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت صحابياً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.

وسئل الإمام أحمد؛ إمام أهل السنة والجماعة، من هي الطائفة المنصورة؟ قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فما أدري من هم.

فأنا كنت بشغف الشوق إلى أن أزور هذه الدار، وكنت سعيداً يوم دخلت هذه الدار؛ لأنني أسمع عنها الذكر الحسن، وأعلم بأنني سوف ألتقي فيها بأحفاد الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود:

نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا

هم النجوم، وهم الشموس التي ما أفلت حتى اليوم، واعلموا بارك الله فيكم أن الحديث معكم إنما هو من بضاعتكم، وكأنكم تقولون: {بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:٦٥] ولكني أقول: جئت ببضاعة مزجاة فأوفوا لنا الكيل، وتصدقوا علينا من علمكم، إن الله يجزي المتصدقين.

ما أتيت إلا لأعلن الحب فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأتكلم في بعض القضايا؛ أتكلم عن شرف هذا العلم، وهو علم شريف لكن لمن علم أنه شريف {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:١٨] وإن لم يكن علم الحديث أشرف العلوم فأيُّ علمٍ يتوج لهذه المكانة!! وأيُّ علمٍ يرشح لأن يحتل على علم الحديث مكانه!! لا والله لا يكون هذا أبداً.

يقول ابن عبد الباقي؛ أحد العلماء الأجلاء، من أحفاد أبي أيوب الأنصاري، الذي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء وأثنى عليه كثيراً، وهو من علماء السلف والسنة، قال في آخر عمره: تبت من كل علم إلا علم الحديث.

يقول القرطبي المحدث:

نور الحديث مبينٌ فادن واقتبسِ واحد الركاب له يا ابن الرُضا الندُسِ

واطلبه في الصين فهو العلم إن رفعت أعلامه برباها يابن أندلسِ

ويقول الآخر:

أهل الحديث هم صحب النبي وإن لَمْ يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

فهم صباح مساء مع أنفاس المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ مع حدثنا، وأخبرنا، وسمعت، وعن، وأن؛ وهي كلمات أهل السنة والجماعة، وهي أسانيد أهل السنة والجماعة، وهو علم أهل السنة والجماعة.

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان

ما العلم نصبك للخلاف سفاهةً بين الرسول وبين رأي فلانِ

صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأً سمع مني مقالةً فوعاها، فأداها كما سمعها، فربَّ مبلغٍ أوعى من سامع} وعند ابن حبان في الصحيح: {رحم الله امرأً} ولبعض أهل العلم من أهل الحديث رسالة اسمها المسك التبتي في شرح حديث (رحم الله امرأً سمع مني مقالتي)؛ المسك التبتي نسبة إلى التبت: وهي الهضبة في الهند التي تنفح بالمسك، في فضل هؤلاء الوعاة الحملة.

ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} وهو من حديث معاوية، ومفهوم المخالفة: أن الذي لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، ولا يعلمه السنة، ولا يوجهه إلى الجلوس في دار الحديث، ولا الاستماع إلى كلامهم، ولا إلى العيش معهم، ولا إلى أخذ السنة منهم.

وأنتم أصبحتم أسانيد بين الأمة المحمدية وبين تراثها، فالله الله في هذه الأمانة! والله الله في هذه الرسالة، والله الله في هذا التراث المحمدي الخالد!

يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى: {مثل ما بعثني الله به من الهدى} انظر ما أحسن كلمة بعثني، ولم يقل: أرسلني، أو كلفني، لأن البعث عادةً يأتي في ذكر التوحيد والشرك {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦] قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث}؛ وقال: (الهدى) ولم يكتفِ بل ذكر (العلم) وقال: (العلم) ولم يكتفِ بل ذكر (الهدى)؛ لأن الهدى هو العمل الصالح، والعلم هو العلم النافع، واليهود أوتوا علماً لكن لم يؤتوا عملاً، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:١٣] وقال في عالمهم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦] وقال فيهم: مثلهم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:٥] حمار لا يفقه، ولا يعي، على ظهره صحيح البخاري وصحيح مسلم وفتح الباري وتحفة الأحوذي؛ لكنه حمار:

قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب

فإنني جاهلٌ بسيطٌ وصاحبي جاهلٌُ مركب

والجاهل المركب: هو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

وشرف أهل الحديث أجمعت عليه الأمة الإسلامية، ذكر الذهبي في ترجمة الإمام أحمد: أن رجلاً ذُكر للإمام أحمد أنه يتنقص أهل الحديث، فهز يده وقال: زنديق زنديق زنديق، في درجة الملحد وإنما تزندق أبو العلاء المعري وأمثاله؛ لأنهم استهزءوا بـ أهل السنة وأهل الحديث.

وفي سيرة أبي داود صاحب السنن أنه قال: دخل عليه سهل بن عبد الله التستري قال: طلبٌ يا أبا داود أريد أن تنفذه لي، أسألك بالله، قال: ما هو؟ قال: أن تخرج لي لسانك.

فأخرج لسانه فقبلها، وقال: لسانٌ وعت كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتحدثت به أولى بالتقبيل.

وذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة أبي زرعة؛ حية الوادي، المحدث، المعدل، إمام أهل الجرح والتعديل أنه لما توفي رئيَ في المنام، فقالوا: ماذا فعل الله بك؟ قال: رفعني في عليين، قيل: بماذا؟ قال: صليت على الرسول عليه الصلاة والسلام في كتبي كتابةً ألف ألف مرة.

وشرف أهل الحديث يأتي من ثلاثة أمور:

أول شرف: أنهم من أكثر الناس صلاةً على الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن:

إذا فات المحب سماع من يهوى تلذذ باستماع حديثه

فهم أكثر الناس صلاةً على الرسول عليه الصلاة والسلام؛ في دروسهم ولقاءاتهم ومناظراتهم وحوارهم.

الأمر الثاني: أنهم حفظوا أصول الإسلام.

وهل العلم إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عمرو الأوزاعي: ما أتاك من الكتاب والسنة فعلى الرأس والعين، وما أتاك من أحدٍ يخالف الكتاب والسنة فضعه في الحش؛ والحش هو الكنيف.

فالعلم قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فأهل الحديث حفظوا علينا أصول الإسلام؛ بمدارستهم وبحفظهم، ولا تؤخذ العقيدة إلا من الكتاب والسنة، ولذلك لي عودة مع عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل الحديث.

وأما شرف أهل الحديث فيأتي من النضرة على وجوههم، فأهل الحديث يتميزون عن أهل النحو -ولا نتنقص أحداً- وعن أهل اللغة، والجغرافيا، والتاريخ؛ بأن على وجوههم نضرة ومهابة، من دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومهابة لهم:

من تلقَ منهم تقل لا قيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري

تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بذكرهم ذكروك الواحد الباري

فأهل الحديث تلوح على محياهم أنوار الحديث، وسمته، وهيبته وملاحته، وحلاوته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>