للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الهداية إلى الأعمال الصالحة]

وهناك هداية جزئية إلى الأعمال الصالحة، قال سبحانه عن المؤمنين: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:٢٤]: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج:٢٤] أي: أن الله وفقهم فهداهم إلى الطيب من القول.

لا إله إلا الله! هذا الإيمان عجيب، يحول الإنسان بين عشيةٍ وضحاها إلى أن يصبح نظره طاعة، وكلامه طاعة، وحركته طاعة، ومشيه طاعة، حتى كلامه يصبح ذكراً يقول سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:١٠].

{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠] ودل على نفسه سبحانه بالضمير لا بالاسم الظاهر؛ لأنه معروف عند المؤمن أنه إلى الله، العرب في أشعارهم كانت تعبر بالضمير تعظيماً للممدوح، يقول المتنبي يمدح كافوراً:

قطعت الفيافي والشناخيبَ دونه وجبت هجيراً يترك الماء صاديا

أبا كل طيب لا أبا المسك وحده وكل غمامٍ لا أخص الغواديا

وترك اسم كافور، وما أعلمنا به في القصيدة، لأنه مشهور.

ولو أن هذا المتنبي قطع الفيافي إلى الله وترك هؤلاء البشر لكان له عند الله شأن لكن مرة عند سيف الدولة، فإذا جفاه سيف الدولة، خرج إلى كافور، وإذا طرده كافور خرج إلى عضد الدولة لأنه ما عرف الطريق.

قال:

قطعت الفيافي والشناخيب دونه وجبت هجيراً يترك الماء صادياً

يقول: إني جبت الصحراء وظمئت في الصحراء حتى كدت أموت لآتي إليك والشناخيب هي الجبال، والشاهد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠] والصالحون يعرفون على من يعود الضمير في قوله: (إليه، وأنه هو الله).

وورد في قصة سليمان عليه السلام، والقصة في تسخير الريح له، كما قال تعالى: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:٣٦] غدوها شهرٌ ورواحها شهر، سخر الله له الريح، فكان إذا أمرها أن تنتقل به من مكان إلى مكان انتقلت به الريح، وأصبح في السماء، معه وزراؤه وأمراؤه وحاشيته على بساطٍ من الريح، فحجب سليمان بهذا البساط عليه السلام الشمس عن فلاحٍ يزرع في الأرض؛ فنظر فوجد بساط سليمان عليه السلام يخترق الجو عابراً من مكانٍ إلى مكان، فالتفت فرأى سليمان ورأى الناس معه على بساطٍ من ريح، وتعبير القرآن جميل يقول: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:٣٦] أي: أنها إذا أرادت أن تهوي به فلا تهوي مرةً واحدةً فيتكسر، بل تهوي بالتدريج حتى تنزله كما تفعل الطائرة في مدرجات المطار: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:٣٦] قال أهل العلم: بانبساطٍ متدرج حتى يصل، قال: فلما التفت الفلاح قال: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، ولم يكن يعلم أن قوله: (سبحان الله) أعظم من ملك آل داود، فسمعها سليمان عليه السلام؛ لأنها اخترقت الحجب لتصعد إلى رب العالمين: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠].

قال للبساط: اهبط هنا فهبطت الريح، قال للفلاح: ماذا قلت؟! قال: رأيتك فقلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قال: والذي نفسي بيده، لقولك: (سبحان الله) خيرٌ مما أوتي آل داود.

هذه الكلمة وحدها خيرٌ من ملك الدنيا وما عليها، ويقول سبحانه: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:٣٥] تعبيرٌ عجيب! وهنا أضواء دنيوية لكنها تضمحل أمام نور الله.

فأنت شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

إذا أتى نور الله بطل كل نور: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥].

ولا يهدي الله لنوره إلا من يشاء، ومن يحب، وفي حديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب} فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، ومن هداه الله فقد أحبه، أما الدنيا فأمرها سهل، يعطيها الله الكافر الوثني في أفريقيا، والملحد الأحمر في روسيا والنصراني الأشقر في أمريكا، والصيني الأصفر في بكين، فكلهم سواء، أما الهداية فلا يعطيها الله إلا لصنفٍ من الناس: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣].

<<  <  ج:
ص:  >  >>