[من العلم الدخيل علم بني إسرائيل]
وقال عز وجل في علم دخيل وعالم دخيل ما نفعه علمه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ.
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:١٧٦].
"إياك أعني واسمعي يا جاره" و"مصائب قوم عند قوم فوائد".
هذا الرجل عالم من علماء بني إسرائيل علمه دخيل واسمه بلعام بن باعوراء كما يقول ابن كثير وغيره من المفسرين.
بلعام بن باعوراء تعلم علماً من علم التوراة، ثم أتى وعَلِمَ الله الخبث من قلبه, وعلم الخسيسة والدسيسة في نفسه، فبعد أن تعلم كفر بما أنزل الله على رسله، واستبدل بالعلم وتبليغه الدنيا، وأغري بالقصور من الكفار, وانقلب على عقبيه, وكتب لموسى بالردة عن دين الله عز وجل، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: اتل على طلبة العلم، اتل على جيلك وعلى أصحابك، اتل على أمتك أن رجلاً تعلم علماً آتيناه آيات بينات في صدره.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:١٧٥] يا لروعة التصوير: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:١٧٥] قال ابن كثير: جمال ما بعده جمال؛ انسلخ كالحية عندما تنسلخ من قشرها، وكالثعبان عندما ينسلخ من جلده، لم يقل انخلع أو انحط، نعوذ بالله من الانسلاخ: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:١٧٥] وما قال (تبع الشيطان) وهذا فيه وجه بلاغي، أي أنه بلغ من شيطنة هذا الرجل أن الشيطان يتبعه، يقول بعض شياطين الإنس من الفجرة:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
أصبح إبليس من جنده، ففي مرحلة من المراحل كان مقوداً للشيطان, يقول: ثم تطورت به الأمور حتى صار الشيطان من سريته.
سر الجمال في الآية: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:١٧٥] أن الشيطان أتبعه، لقوة شيطنته.
{فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:١٧٥] ولم يقل: من المغوين؛ لأن الغاوين يغوون غيرهم، لأن العالِم إذا زل، زل بزلته عالمَ.
حتى إذا رأيتم بعض الناس ممن أوتوا العلم يصلي في بيته، صلى كثير من العوام في بيوتهم، وقالوا: فلان يحفظ الترمذي بأسانيده وسنن ابن ماجة ويصلي في البيت وهو عالم، لا بد أنه قرأها في القرآن, فإذا أطال ثوبه أسبلوا أثوابهم، وقالوا: وجدها العالم فيه، وأكثر العصاة في مجتمعنا الآن يستدلون ببعض من يذنب، والعلماء غير معصومين فيخطئون كما يخطئ البشر، لكن يجعلون الهفوة الواحدة صورة مكبرة فإنه يقال: انظروا إليه كيف أخطأ، وإذا سمع الغناء يقول: الغناء ليس فيه بأس فنسمعه، فقال الله عز وجل: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦] يقول: لو علمنا من الرجل خيراً كنا رفعنا رأسه ومجدناه, وشرفناه وكرمناه، ولكنه أخلد إلى الأرض، أي: أحب التراب، وعشق الدنيا, وأحب المنصب والذات والمدح، نعوذ بالله من ذلك: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:١٧٦] وانظر إلى المثل: مثل الله بصنفين قبيحين، مثل بالحمير وبالكلاب لعلمائهم، فالكلب أخس مثل لمن تعلم، فخبثه معه سواء تعلم أو لم يتعلم، والحمير لمن عنده علم في صدره ولم ينفعه علمه: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:٥] المجلدات والمصنفات على ظهر الحمار، لكن يذهب بها لا يدري ما هو صحيح البخاري من صحيح مسلم من مستدرك الحاكم، هذا مثل العالم الذي ما استفاد من علمه: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:١٧٦] أي: إن أدخلته في الشمس أو أخرجته منها مد لسانه ولهث, وجربوا بالاستقراء تجدوا هذا.
ويقول تبارك وتعالى متحدثاً عن العلم الضار المذموم الدخيل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:٢٣].
قال بعض أهل التأويل: وأضله الله على علم, أي: عنده علم فأضله الله, لأنه ما طلب الهداية، هذا وجه من وجوه التفسير والمهمة أو الصائبة في المسألة.
وقال عز وجل في العلم الدخيل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:٨٣] علم دخيل ظنوا أنه علم، وهذا يشمل اليهود والنصارى الذين لم يدخلوا في هذا الدين، ويشمل كفار قريش أو كل كافر، فإن كل معاند يظن أن عنده فهماً وعلماً، فعلمه العلم دخيل؛ لأنه ما قاده وما عرفه على الحق، إذاً فالفائدة من هذه الآية: أن كل علم لا يدلك على الحق فهو علم دخيل، وكل علم لا يسددك ولا يردك إلى الصواب فهو علم دخيل.