[وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس]
ويقول صلى الله عليه وسلم وهو يزود ابن عباس من زاد الآخرة كما في الترمذي: {احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
ولذلك كان معنا فيما سلف معاذ رضي الله عنه وأرضاه أخذ وصية الرسول عليه الصلاة والسلام, فكانت نصب عينيه مخافة الله, ومراقبة الله عز وجل, لأن بعض الناس يراقب الله عز وجل في الجلاء, ولكن لا يراقبه في الخفاء, يراقبه أمام الناس فإذا خلا بمحارم الله انتهكها وضيعها وهدّ حدود الله عز وجل وانتهك معاصيه.
ولذلك جاء في سنن ابن ماجة في كتاب الرقاق قال ثوبان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لأعلمن رجالاً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، يجعلها الله هباءً منثوراً, قال الصحابة: يا رسول الله! أليسوا مسلمين؟ قال: بلى مسلمين, يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون, ولهم حظ من الليل -أي: يصلون في الليل- ولكنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها} نعم.
إن العجيب أن تخشى الله في السر, والخفاء يوم لا يراك إلا هو, يوم تنام عنك عيون الناس ولا تنام عينه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, يوم يغفل عنك الناس ولا يغفل عنك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, ولذلك يقول الأندلسي لابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فلا يراك إلا الحي القيوم, ولا يراقب تحركاتك وسكناتك إلا هو وقد غفل عنك الناس فتذكره, ولذلك يقول أهل العلم: إذا خلوت عند الناس ورأيت الكواكب فاسأل: من كوكبها؟! وإذا رأيت النجوم! فاسأل: من أنارها؟! وإذا رأيت السماء! فاسأل: من رفعها؟! فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى معك أين ما ذهبت! واعلم أنك إن لم تكن تراه فإنه يراك تبارك وتعالى.
أتت سكرات الموت إلى معاذ في هذه الآونة, فتفكر بماذا يقدم على الله عز وجل, فقال وهو في سكرات الموت لابنه: اخرج انظر هل أصبح الصباح؟ فنظر ابنه وقال: لا ما أصبح, فجلس قليلاً ثم رفع طرفه، وقال: [[اللهم إنك تبارك في القليل وتكثر الصغير، اللهم بارك في هذا الجرح -وكان جرحاً من الطاعون- قال: كيف تدعو على نفسك بالموت؟ قال: مللت والله الحياة، وسئمت والله البقاء, فقال لابنه: اخرج هل أصبح؟ قال: أصبح, قال: أعوذ بالله من صباح يوم إلى النار]].
كانوا يذكرون بعض المناقب يوم تأتيهم سكرات الموت؛ لأن في سكرة الموت يذهب الكبر والخيلاء, ويذل فيها الجبار, ويذعن فيها المتكبر, ويفتقر فيها الغني, ويضعف فيها القوي, فأين الكبر عنهم؟ إنما يذكرونها للأمور التربوية للأمة التي بعدهم وللجلاس.
ولذلك يقول الأعمش لما حضرته سكرات الموت -رحمه الله رحمة واسعة، وهو من الزهاد العباد الكبار- لما بكى عليه أبناؤه, قال: يا أبنائي! لا تبكون فوالله الذي لا إله إلا الله، ما فاتتني تكبيرة الإحرام ستين سنة مع الإمام, ما قالها تفاخراً ولا تكبراً, وإنما قالها ليربيهم على تكبيرة الإحرام, ويقول ابن إدريس الزاهد العابد لابنه وهو يبكي عند رأسه: يا بني! اتق الله عز وجل, يا بني! لا تعص الله في هذا البيت الذي سكنته أنا وإياك فيه، فوالله لقد ختمت فيه القرآن أربع آلاف مرة, ذكرها الذهبي في سير النبلاء، وذكرها صاحب أهل الهمم العالية في تذكر الأيام الخالية.
بعض الصالحين يُورِّثون أشقياء -والعياذ بالله- فجرة, بدل القرآن وبدل قيام الليل يحل الغناء الماجن, ويحل الفجور والبعد عن الله عز وجل, بدل الصيام تحل المعاصي, بدل تلاوة الحديث تأتي الأفلام الخليعة الماجنة, والصحف المنهارة التي تبث السموم, وهذا سوء وراثة يبتلي الله عز وجل بها بعض الناس, فمن أراد أن يحفظه الله في أبنائه فليخف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وليحفظ الله, فإن أهل الكنز الذين في سورة الكهف حفظ الله عليهم كنزهم، فقال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:٨٢] قال ابن المسيب -رحمه الله تعالى-: انظر كيف حفظ الله الكنز لهؤلاء، وقال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:٨٢] فلما كان صالحاً حفظ الله عليه أبناءه وكنزه, قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:١٩٦] فكل من يتولى الله يتولاه الله في أهله وزوجته وأولاده ورزقه في مدخله ومخرجه حتى يلقى الله.