للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بم يكون الإعجاز في القرآن؟]

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:٢٣] أي: تعالوا بسورة من مثله، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: أي سورة؟ سورة كبيرة أو صغيرة؟ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:١] هل تستطيع العرب أن تأتي بمثلها؟

تقول المعتزلة: السور التي تحصل بها الإعجاز هي الطويلة، أما مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:١] والتي هي من ثلاث آيات فلا، وكذبوا.

بل أي سورة، معنى الإطلاق لا يستطيع العرب ولا غيرهم من الفصحاء أن يأتوا بسورة من مثله، وحقق ذلك ابن كثير وغيره من أهل العلم رحمهم الله أن أي سورة مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:١] {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا أبداً.

وانظر الآن إلى إعجاز القرآن، فالقصيدة تسمعها ستين بيتاً، لا يكون فيها إلا بيت أو بيتان من أحسن ما يكون، وأما غيرها فكذب ودجل وخداع.

وتعال الآن إلى موازنة، ولله المثل الأعلى، ولكلامه المثل الأعلى، فنأتي إلى الوصف، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:١٧ - ٢٠] أليس هذا وصفاً حقيقياً، ثابتاً لا فيه عوج ولا كذب ولا تمويه، إي والله!

ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الوصف الآخر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:١٠] لكنه جمال في الأسلوب، ما قال: طويلات، بل قال: (بَاسِقَاتٍ).

(لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) ولم يقل: جيد ولا طيب، بل قال: نضيد.

وتعالوا الآن إلى الشعراء، يقول بشار بن برد يصف الجيش:

كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

كذب على الله! ما كان هذا، ذلك الأعرابي يصف المرأة بالنخلة، ويصف وجهها بالقمر، ويصفها لرشاقتها بالغزال، ويصف الكف بشيء من اللجين، وهذا كذب وخداع، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:٢٢٤ - ٢٢٧].

والله عز وجل إذا أراد التهديد في القرآن اقشعرت الأبدان، وإذا أتى بالنعيم ووصف النعيم ارتاحت القلوب إلى نعيم الواحد الديان، وإذا ذكر الموت أبكى العيون، وإذا ذكر الدنيا وآياتها أتى بالعجب العجاب، وإذا وصف الحدائق والبساتين أتى بشيء تسيل له المقل عجباً، وتندهش له العقول، فسبحان من أنزل هذا القرآن.

قال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:٢٣] من الشهداء؟

قال ابن عباس: آلهتكم، تعالوا بالأصنام والحجارة، تعالوا بالأوثان وادعوها لتعاونكم في الإتيان بمثل هذه الآيات.

وسبق في أول جلسة من جلسات التفسير أن ذكرت كلاماً جيداً لـ سيد قطب حيث، يقول: القرآن كلام، وكلامنا نحن كلام، وكلها من حروف، أنت تقول: محمد علي سعيد والقرآن فيه هذه الألفاظ، فكلها من هذه الحروف، قال: ولكن الفارق مثل هذا التراب، خلق الله من هذا التراب الإنسان، فالإنسان يشابه القرآن؛ لأن القرآن من الكلام الموجود والإنسان من التراب الموجود، والإنسان لا يستطيع أن يصيغ من التراب إنساناً فيأتي فيصنع الخزف والأواني والصحاف والأباريق، فهذه الأباريق والأواني والخزف مثل كلامنا نحن، والإنسان مثل كلام الله عز وجل، وأصل المادة واحدة، ولذلك يتحدى الله فيقول: {الم} [البقرة:١] هذه الحروف تعالوا بمثلها، هذه المادة الخام موجودة، اصنعوا مثل القرآن، لكن ما استطاعوا.

{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:٢٣] قيل: آلهتكم، وقيل: شهداؤكم أعوانكم، وأذنابكم، وأقزامكم، وعملاؤكم، ومن يسير في مسيرتكم، ومن يجلس معكم في ظلام الليل، ومن يؤزكم بالكلام، تعالوا أنتم وكل عميل على وجه الأرض، وكل ذنب، وملحد، وائتوا بسورة من مثل هذا القرآن.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:٢٣] قيل وهو الصحيح: إن كنتم صادقين أنه ليس من عند الله فتعالوا بمثله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:٢٣] وقيل: إن كنتم صادقين أنكم تستطيعون أن تأتوا بمثله، فالمادة معكم والكلام موجود، فتعالوا بمثله، وخسئوا، وخسروا، وخابوا، وما استطاعوا وما فعلوا.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:٢٤] معجزتان اثنتان:

المعجزة الأولى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) تحداهم الله أن يأتوا بمثل القرآن، فلم يستطيعوا.

المعجزة الثانية: قال: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) قال أهل العلم: تحداهم الله بالقرآن أن يأتوا بمثله، أو بسورة، أو بعشر سور، ثم قال لهم في نفس القرآن: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وبالفعل قال هذا الكلام بقوة، وورد هذا بغير خوف، وبغير جزع وهلع، وفي الحقيقة ما مر في التاريخ تحدٍّ للقرآن والحمد لله، ولا استطاع أحد أن يتحداه ولا أن يأتي بمثله، وهذا معجزة أخرى أن يقول الله: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فما فعلوا.

والمعتزلة يقولون: إن التحدي في القرآن والإعجاز، أن الله كتب على الناس ألا يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولو لم يكتب عليهم لاستطاعوا، وقد كذبوا، بل لا يستطيعون، ما استطاعوا أبداً، يقولون: إنه في القدر أن الله منعهم أن يأتوا بمثله، ولو لم يمنعهم لكان باستطاعتهم أن يأتوا بمثله، ولا والله! لا يستطيعون أن يأتوا بمثله أبداً.

يقول الأصمعي: خرجت في البادية فرأيت أعرابية فأخذت أقرأ، وفي بعض روايات هذا القصة أن أعرابية سمعت قارئاً يقرأ يقول: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧] وهي لا تدري أهو قرآن أم لا، فهي عجوز أعرابية بدوية، قالت: سبحان الله! كلام من هذا؟ قالوا: وماذا تريدين؟ قالت: أتى بأمرين، وبنهيين، وبشارتين، كلام من؟ قالوا: كلام الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>