للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قرب الله من عباده]

إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قريب، يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:١٨٦] وفي الآية لفتة بلاغية، وهي: أن الله لم يقل: وإذا سألك عبادي عني فقل لهم: إني قريب.

لا.

بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:٨٦]؛ لأن القرب وسرعة المبادرة للإجابة تقتضي الاختصار في الكلام، فقال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:١٨٦].

ركب الصحابة مطاياهم، واستقلوا رواحلهم، وهَمْلَجَت بهم في روابي المدينة، فأخذوا يقولون: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله! فجمعهم عليه الصلاة والسلام وقال: {أرْبِعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته}.

انظر إلى الوصف! وما أحسن هذا التوحيد المبسط الذي يعلم به صلى الله عليه وسلم الأعراب وأهل البادية! يقول: هو قريب، فادعوه.

قال أحد الصحابة: {يا رسول الله! أربنا بعيد فنناديه؟ أم قريب فنناجيه؟ فسكت عليه الصلاة والسلام -لأنه لم يكن يدري- فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:١٨٦]}.

والله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:٥٥] وخفية: من الإخفاء، أي: أن تخفي دعاءك.

قالوا عن زكريا -عليه السلام-: لما أراد أن يدعو ربه ما سمع جليسه، فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم:٤] لقد أراد ابناً فرزقه الله ابناً.

قالوا: لما قال هذه الكلمة، لم يعلم أحد من جلسائه ماذا قال؛ لكن الله علم ووصَل خبرُه إلى الواحد الأحد.

والله يقول عن نفسه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:٧] ما هو أخفى من السر؟ قال أهل التفسير: الذي هو أخفى من السر هو الذي ما فكر به الإنسان إلى الآن؛ فالله يعلم أنك بعد دقيقة سوف تفكر في أمر، فيعلم به قبل أن تعلم أنتَ به.

سبحان الله رب العرش العظيم!

وذكر الله أنبياءه، وأن كل واحد منهم دعاه في أزمة؛ فجلى الله أزمته، وكشف ضره، وأزال كربته.

فَذَكر عن نوح أنه قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:١٠] فنصره الله ونجاه.

ودعا موسى وكان أخوه هارون يُؤَمِّنُ بجانبه، ولم يُجابا إلا بعد أربعين سنة، قام موسى يقول كما في القرآن الكريم: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:٨٨ - ٨٩] قالوا: إنما ذَكَر المثنى رغم أن الداعي واحد لأن هارون كان كلما قال موسى: ربنا، قال: آمين، فقال الله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:٨٨] ثم قال هناك: {فَاسْتَقِيمَا} [يونس:٨٩] قال أهل العلم: إنما أمرهم بالاستقامة لتجاب الدعوة، وقد أجيبت وانسحق فرعون وبقيت مبادئ موسى عليه السلام، وحُمِلَت في شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام.

وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الدعاء هو العبادة}.

رواه الأربعة وصححه الترمذي.

والمعنى: أن جُلَّ العبادةِ تكون في الدعاء.

وعند الحاكم: {الدعاء مخ العبادة} ولكن فيه ضعف.

وصفوة العبادة الدعاء، وإذا رأيت الرجل يكثر من الدعاء ويلح فاعلم أنه مؤمن، وعلى حسب كثرة دعائه يكثر إيمانه، وكل مخلوق يغضب إذا دعوته كثيراً وسألته وألْحَحْتَ عليه، أما الله فكلما ألححت عليه ودعوتَه وسألتَه أحبك، وزادت محبتك عنده تبارك وتعالى.

فاقرع باب الله دائماً، ولا تقل أكثرتُ؛ فإن الله أكثر، وما عنده أكثر مما عند غيره {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤].

وروى ابن حبان والحاكم عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: {ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء} فلا يوجد في الأرض عبادة أكرم على الله عز وجل من دعائه تبارك وتعالى، والله يُلْجِئ عباده إلى بعض الاضطرارات والمواقف الحرجة والنكبات والأزمات حتى يلتجئوا إليه - سُبحَانَهُ وَتَعَالَى - ويدعوه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>