ترجم ابن كثير للبرامكة، وما أدراك ما البرامكة! شيء عجيب! نبأ غريب! البرامكة أسرة أعجمية، فوضها المهدي وابنه هارون الرشيد بعده في الأموال والديار، بنوا القصور، بنوا الحدائق، رفعوا الدور، كانوا يطلون قصورهم بماء الذهب وماء الفضة، أي بذخ هذا! أي ثراء هذا! أي غنىً هذا! لكن نسوا الله، تركوا الصلوات، ارتكبوا الشهوات، أكثروا من السيئات، أكثروا من الفواحش، فأمهلهم الله عز وجل، ثم سلط عليهم أقرب قريب إليهم هارون الرشيد، وثقوا بـ هارون الرشيد ووثق بهم، أحبوه وأحبهم، لكن كما أتى في الحديث:{من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضى الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}.
فغضب عليهم هارون الرشيد غضبة؛ لأنهم ما عرفوا الله في الرخاء فلم يعرفهم في الشدة، فأخذ أكبرهم الذي علمهم المعصية يحيى بن خالد البرمكي , فأنزله في السجن سبع سنوات حتى طالت لحيته وأظفاره وشعره وحاجباه وطال شاربه، وطال كل شيء فيه حتى أصبح يقول: لا أنا في الدنيا ولا أنا في الآخرة.
!! ما رأى الشمس سبع سنوات، قال له بعض الناس لما دخلوا يزورونه: ما لك؟ قال: ما عرفت الله في الرخاء فلم يعرفني في الشدة، وقال في رواية عنه: أتدرون لماذا أصابني الله بهذه المصيبة؟ قالوا: ما ندري؟ قال: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها.
فيا من تمهل في الرخاء، ويا من قاطع المساجد والصلوات الخمس: اعلم أن معنى حفظ الله في الرخاء معناه الحفظ في الشدة.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي:{من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من طلبه أدركه ومن أدركه كبه على وجهه في النار} كيف يحفظ الله؟ كيف يَرعى حدود الله؟ كيف يتعرف على الله في الرخاء من لم يصل الصلوات الخمس أو من أخرها عن أوقاتها أو من أسرف في تضييعها أو من تلاعب بها قدمها مرة وأخرها مرة أخرى؟
البرامكة قتل منهم هارون الرشيد مقتلة عظيمة، وأهانهم إهانة ما سمع في التاريخ بمثلها، وأنزلهم منازل الإذلال والقهر والبكاء والندم والحسرة وجعلهم يسبحون في دمائهم؛ لماذا؟ لأنهم ما تعرفوا على الله في الرخاء فلم يعرفهم في الشدة.