[الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حمي الوطيس]
قال: ناد في بني الحارث، وكانوا عشيرة واحدة, ولحمة واحدة قوامها ثمانون رجلاً من أشجع العرب على الإطلاق, كانوا يشربون الموت كما يشربون الماء، ومدحهم شعراء العرب وقالوا: كانوا إذا حضروا المعركة تحمر أحداقهم حباً للموت، فلما سمعوا: يا بني الحارث تشجعوا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خصهم أمام الناس بهذا الاسم, فتواثبوا من خيولهم وإبلهم, ثم أخذوا أغماد سيوفهم وكسروها على ركبهم، ثم أتوا بالسلاح وهبوا لنجدة الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد كان يقاتل من بعد الفجر إلى الضحى وما تأخر خطوة واحدة, بل وقف عليه الصلاة والسلام أمام الجيش , وأوقفهم في منتصف الجبل, فما تقدم منهم جندي واحد.
ثم أخذ حفنة من التراب ورمى بها وقال: {شاهت الوجوه} قال العباس: والله ما بقيت عين أحد منهم إلا وقعت فيه ذرة, فأخذت تدمع عيونهم.
فلما رأى بني الحارث أقبلوا على أقدامهم معهم السيوف فتح لهم صلى الله عليه وسلم طريقاً, فتقدموا بينه وبين الكتيبة الوسطى, كتيبة مالك بن عوف النصري، فاقتتلوا معه حتى سُمع شظايا السيوف -أي: كسار السيوف- من على رءوس الناس, فقال عليه الصلاة والسلام: {الآن حمي الوطيس}.
قال أهل العلم: هو أول من قالها من العرب, وهو مَثَلْ, وحمي أي: اشتد، والوطيس: هو التنور الذي يخبز فيه, ومعناه أن الأمر ضاق, وأنه لا يفرجه إلا رب السماوات والأرض.
فأخذ بنو حارث يقاتلون حتى تكسرت كثيراً من سيوفهم, فأخذوا يعوضون من المسلمين سيوفاً، وتوارد الناس، والتحمت الكتائب بعده صلى الله عليه وسلم, وأخذ يرد هؤلاء على أعقابهم في أعلى الجبل, فأخذوا يتأخرون، فما أُذن لصلاة الظهر إلا وقد سُلسلوا في السلاسل وقيدوا في الأسلاب.
وأخذ عليه الصلاة والسلام يقول لـ ابن أبي حدرد: {خذ إليك السبي} أي: النساء والأطفال, أنت يا فلان عليك بالإبل, وأنت يا فلان عليك بالغنم، وأنت يا فلان عليك بالبقر.
قال ابن كثير: فجمع صلى الله عليه وسلم من الغنائم ألوفاً مؤلفة لا يعلمها إلا الله.
وقدر ابن إسحاق الغنم بأربعة وعشرين ألف رأس، والإبل بسبعة آلاف؛ لأنهم أهل بادية وهم أكثر العرب مواشي.
وتقدم عليه الصلاة والسلام إلى كتيبة مالك بن عوف النصري وهم ألف، وردهم على أعقابهم، فأعلنوا الهزيمة, ثم فروا وتركوا نساءهم وأطفالهم وإبلهم وبقرهم وغنمهم.
فأخذ عليه الصلاة والسلام يلحق بهم هو والجيش.