[رؤية بلال للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام وزيارته له والوداع الأخير]
وبعدها يعود بلال إلى الشام، وانقطع عن المدينة المنورة فترةً طويلة، انقطع لأن السفر مضن، وبلال أصبح شيخاً كبيراً أشرف على الشيخوخة، ونام ليلة من الليالي؛ وفي أثناء النوم زاره طيف محمد عليه الصلاة والسلام، زاره وجه الرسول عليه الصلاة والسلام النوم، والرسول عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين - يقول: {من رآني في المنام، فسوف يراني، فإن الشيطان لا يتمثل بي} رأى حبيبه وشيخه، رأى الإمام بصورته، ورآه بنوره، وبشاشته أمامه يحاسبه، ويعاتبه ويقول له: هجرتنا يا بلال! أما تزورنا؟
ما أعظمها من كلمات! وما أقوى العتاب!
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
أو كما قال المتنبي:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همُ
هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة!
واستيقظ بلال باكياً وسط الليل، وتوضأ وصلى ركعتين، وأسرج راحلته، أبعدها يتأخر؟!
دعوةٌ مقدمةٌ من الإمام الأعظم إلى المؤذن في الشام أن يزوره في المدينة.
والرسول عليه الصلاة والسلام حرم الله على الأرض أن تأكل جسده، كلما سلم عليه مسلم رد الله عليه روحه ليرد السلام، ركب الناقة وذهب، وطوى القفار وكأنها سويعات، سويعات قصيرة حتى يصل إلى المدينة.
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق
فوصل قبل صلاة الفجر، لتكون ملحمة من البكاء أيضاً، فوجد الناس نياماً، وأتى إلى الروضة فسلم، وبكى ما شاء الله له أن يبكي، ووقف هناك في عالم الذكريات، والحياة، وعالم العبر، والدروس التي لا تنتهي أبداً.
وحان أذان الفجر وتأخر المؤذن -مؤذن المدينة تأخر ونام- حكمةً من الله وتحرج بلال، فدينه لا يسمح أن يذهب، وينام الناس، ويذهب وقت الأذان، فصعد المنارة وأذن، ولما أتى إلى محمد رسول الله خنقه البكاء، وقام الناس من المدينة، قام الصحابة كأنهم بعثوا من القبور يبكون مع بكاء بلال.
الله أكبر! كيف تتكرر المشاهد التي لا تنتهي والصور التي تحمل الأحاسيس والذكريات والمشاعر، وأتوا إليه، وأتى المؤذن وأذن من جديد ووقف بلال يعانقهم ويعانقونه، ويبكون ويبكي:
ولما تلاقينا تباكت قلوبنا فممسك دمع عند ذاك كساكبه
ولكن بلالاً بعدها ودَّع الصحابة؛ لأنه أتى لمهمة خاصة، ولإجابة دعوة خاصة لحبيب خاص، فعاد وفي الشام أتته المنية، فأخذ ينشد وهو في سكرات الموت: [[غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه]].
ومن الذي لا يفرح كفرح بلال، وهو يتصور أنه بعد لحظة سوف يلقى محمداً عليه الصلاة والسلام، وأبا بكر وعمر وخيار الناس؟!
ولفظ أنفاسه، ومات قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:٢٧ - ٢٨].