للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أنس بن النضر من شهداء الأنصار]

أنس بن النضر رضي الله عنه خال أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول أنس: [[كان خالي أنس بن النضر قد تخلف عن معركة بدر؛ لأن معركة بدر أتت في عجلة، ولم يتهيأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا لها الناس، ولما تخلف كان أنس بن النضر، كلما صلى صلاة، قال: والله لئن جمع الله بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، ليرين الله ما أصنع]] قال أنس: [[وهاب أن يقول: لأقاتلن حتى أستشهد؛ لأن القلوب بيد الله عز وجل، قال: ليرين الله ما أصنع]] فلما أتت معركة أحد، قام صلى الله عليه وسلم على المنبر وقد طوق أبو سفيان بالجيش بما يقارب ثلاثة آلاف مقاتل، ما يقارب ثلثي اتجاهات المدينة، ليقطع خط الرجعة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ السير على المواشي من الإبل والبقر والغنم والسوارح كلما سرحت، وكان يؤذي أهل المزارع، فقام صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة، فقال: {أيها الناس! أما علمتم أن أبا سيفان قد نزل بجانب المدينة، فماذا ترون؟} فقام عبد الله بن أبي يصلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم -يصلون ويزكون ويصومون لكنهم منافقون نفاقاً أكبر مخرجاً من الملة- فقال: يا رسول الله! والله ما قاتلنا حياً من أحياء العرب في المدينة إلا انتصرنا عليهم، فنرى أن تقاتلهم داخل المدينة، وصدق في هذا الرأي وهو كذوب وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أن يُقاتلهم داخل المدينة في السكك؛ لأنه سوف يجعل المقاتلة على السطوح، وسوف يرصد لهم كمائن في أطراف السكك، وسوف يدبر لهم مكيدة، فلما علم شباب الأنصار بذلك وكان منهم أنس بن النضر -وحمزة رضي الله عنهما في ثمانين خرجوا من المسجد- كأنهم ما أرضاهم هذا الرأي فخرج بعضهم فلبس أكفانه منهم أنس بن النضر، وعادوا بسيوفهم مصلتة وهم يرتجزون وكان من رجزهم كذلك:

لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل

ثم قام رجل اسمه سالم من بني مالك بن الحارث، وقال: {يا رسول الله! أتخذ سوارحنا ولم نضارب أتمنعنا من دخول الجنة؟ والله لأدخلن الجنة، فتبسم صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر وقال: بماذا تدخل الجنة؟ قال: بحبي لله ولرسوله، ولا أفر يوم الزحف} ودخل حمزة وعلى عمامته ريش النسر، وقال: {يا رسول الله! نخرج إليهم لا نبقى في عقر دارنا؛ لأن ما غزي قوم بعقر دارهم إلا ذلوا، فقال صلى الله عليه وسلم: انتظروا! فانتظروا فنزل صلى الله عليه وسلم واغتسل.

تقول عائشة: اغتسل صلى الله عليه وسلم ولبس درعه ولامته على رأسه، ثم سلَّ سيفه، وخرج على المنبر ليعيد الخطبة مرة ثانية، ويُحرضَّهم على القتال، وعلى مبارزة الأعداء، فقالوا: يا رسول الله! لعلَّنا أكرهناك لعلنا فعلنا، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:١٢١]}.

خرج صلى الله عليه وسلم بالناس، وقال له سبحانه وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:١٥٩] أما أن ترجع مرة ثانية فلا.

فخرج أنس بن النضر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أصبحوا في الطريق عاد عبد الله بن أبي بن سلول إلى المدينة؛ لأنه منافق لا يريد القتال، فقال: يطيع الأغْلِمَة ويترك رأينا -أي: في أمس يوم الجمعة- ثم قال: لا أخرج! فأطاعه ثلاثمائة فانخذل بهم، ثم أتت بنو حارثة الأبطال الشجعان، الذين قاتلوا في حنين، وأرادوا أن يفشلوا، فانتظروا في ظهر الجبل، وتلبثوا فقالوا: نعود إلى المدينة، ثم أتى بنو سلمة، وأرادوا أن يفشلوا مرة ثانية، وهم قبيلة جابر، فتلبثوا بالجبل، فأرسل لهم صلى الله عليه وسلم من ينذرهم وهو أبو جابر الذي كلَّمه الله كفاحاً بلا ترجمان، قال: {اذهب إليهم وادعهم إلى الله وإلى جنة عرضها السماوات والأرض} فأتى إليهم، وقال: ماذا تفعلون؟ ثم حثا في وجوه بعضهم بالتراب، قال: تفعلون برسول صلى الله عليه وسلم هذا؟! فاعتصموا بالله وأرشدهم الله، فذهبوا إلى المعركة، قال سبحانه وتعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:١٢٢].

قال أنس: والله ما وددنا أن كِدْنا نفشل، والله يقول في الآية: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران:١٢٢] لا نريد أننا فعلنا هذا، لكن نريد أننا فعلنا -والحمد لله- ما فعلناه؛ لأن الله عصمنا، ثم قال: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران:١٢٢] حضرت المعركة، وابتدأ القتال، أما أنس بن النضر فلمَّا رأى الناس انهزموا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض أدوار المعركة أخذ سيفه، وكسر غمده على ركبته، ثم لف رأسه بعمامة، ثم قال للأنصار: أستودعكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم لقيه سعد بن معاذ وهو سيدهم، وقال: [[يا أنس بن النضر! ماذا تصنع؟ قال: إليك يا سعد، فوالله إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] أي: أجد نسيم الجنة يدخل في أنفي دون أحد -أي: قريباً من أحد - فقاتل حتى قُتِل، قال أنس: [[والله لقد وقفت عليه وإن فيه أكثر من ثمانين ضربة، بالسيوف والرماح]].

قال: وما عرفنا من هو هذا القتيل إلا أن أخته عرفت أنه أخوها ببنانه أي: بأصابعه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>