للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[باب الأدب والأخلاق]

وأما العنصر الرابع من أبواب وصاياه صلى الله عليه وسلم فهو باب الأدب والأخلاق، كيف طرق صلى الله عليه وسلم هذا الموضوع؟ وكيف أهدى وأسدى لهذه الأمة ما يكفيها وما يشفيها، نحن لسنا بحاجة -نقولها صراحة وبقوة وبشجاعة وبعمق- إلى علم النفس الذي يرد علينا من الغرب، ولا التربية، ولا علم الكلام، تربيتنا وعلم نفسنا من كتابنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا حاجة لنا بغيرهما، فقد أغنانا الله عز وجل بما عندنا، فلا نورد المريض على الصحيح، إنهم مرضى، فكيف نستشفي من المرضى؟! إنهم موتى فكيف نطلب الحياة من الموتى؟! إنهم جوعى فكيف نطلب الشبع من الجوعى؟! لا والله:

والمستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار

يقول ابن تيمية -وقد تكررت هذه الكلمات في مناسبات-: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أُرسل به محمد صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه وله عذاب أليم.

أحكامنا وآدابنا وأخلاقنا وعقيدتنا وسلوكنا وشئون حياتنا في كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا نحتاج إلى غيرنا أبداً، نحن نصدر إلى الأمم ولا نستورد، نحن نعطي ولا نأخذ، نحن نوجه ولا نتوجه إلا من الله الحي القيوم، لأننا خير أمة أخرجت للناس، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يأمر بحسن الخلق.

أتاه أبو ذر كما في الصحيح -ولم يسمه في الصحيح- فقال: {يا رسول الله أوصني -والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ما هو مرض هذا الرجل وداؤه المزمن، ويعرف العلاج الذي ينبغي أن يصرف له- فقال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب} فكانت هذه وصيته صلى الله عليه وسلم، وعلم فيما بعد أن بلية هذا السائل من غضبه رضي الله عنه وأرضاه، لا يتحمل، لأن فيه حدة متناهية، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يضع العلاج، وأن يضع الدواء على الداء، فقال: لا تغضب لأنه يغضب، أما أن يأتي إلى إنسان قطع الحلم جنبيه، ومزق فؤاده وأصبح لا يغضب أبداً، يستغضب ولا يغضب، ويضرب على رأسه وهو يضحك، فيأتي ويقول: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: لا تغضب، أو يأتى إلى إنسان يغضب من مر الهواء، ومن شرب الماء، فيقول: عليك أن تقلل من الحلم، وعليك بالحزم، وعليك بالصرامة، فليس هذا من هديه صلى الله عليه وسلم، ولا من وصاياه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:٤ - ٥] قال: لا تغضب.

وقال له معاذ كما في الترمذي: {يا رسول الله أوصني؟ قال: أحسن خلقك للناس} وقد كان معاذ رضي الله عنه وأرضاه، يُرى فيه بعض الحدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: {أحسن خلقك للناس} وقال لرجل آخر كان مغضباً دائماً، لا يلقى الناس إلا مكفهراً مشمراً غضباناً صئولاً جريئاً كأن القيامة قامت، لا يتبسم أبداً، فقال: {يا رسول الله! أوصني؟ قال: عليك بالمعروف، ثم قال عليه الصلاة والسلام، ولو أن تبسط وجهك لأخيك، وعند أحمد: ولو أن تسلم على أخيك ووجهك منبسط إليه}.

ويقول عليه الصلاة والسلام لثالث: {لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلق أخاك بوجه طليق} وفي لفظ: {بوجه طلق} وكلها تؤدي إلى أن تنبسط وجوه الأحباب إلى الأحباب، وأن يتخالق الناس ويتعاملوا بالود والمحبة، وأن تتعلم تلك الوجوه التي تكفهر في وجوه الناس ولا تبتسم أن الله لا يرفعها بالتزمت، ولا بالغضب، ولا يرفعها بالاكفهرار، إنما بالبسطة والخلق، وعقلاء العرب قبل الإسلام مجمعون على أن بسطة الوجه من الكرم.

يقول أولهم:

تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله

فالرسول عليه الصلاة والسلام في جانب الأدب والخلق كان يوجه الناس إلى ما يرفعهم عند الله.

ولذلك يقول كما في السنن: {إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم} ويقول كما عند الترمذي: {ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون}.

وضرب صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة في كل وصية أوصى بها: في التوحيد، فهو الذي أنزل الله عليه التوحيد، وفي العبادة فهو أعبد الناس لرب الناس، وفي الزهد فهو أزهد الناس في الحطام، ما خلف شيئاً، وإنما خلف رسالة وأمة ومنهجاً ربانياً قائماً، وفي الخلق فهو أحسن الناس خلقاً، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] عظيم صبرك، وحلمك، وتواضعك عظيم، وأي خلق فوق خلقه صلى الله عليه وسلم؟! يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: {كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً} ويقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي} ويقول أبو سعيد الخدري كما في الصحيحين: {كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها} ويقول بهز بن حكيم: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس عريكة} ويقول عبد الله بن سلام: {لما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم وهو منبسط، قلت: والله ما هذا بوجه كذاب}.

حتى يقول ابن رواحة لما رأى ذلك الوجه المشرق المنبسط:

لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبئك بالخبر

فهذا شيء من وصاياه، وإنها لطويلة وكثيرة، ومن أراد وصاياه فليعد إلى كتب السنة، وليعش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعش مع العلم الأصيل، ومع الثروة الغزيرة النافعة النفاذة، ليعش مع الرياض المؤنقة، رياضه عليه الصلاة والسلام، فإنه لا خير إلا عنده، ولا نور إلا من مشكاته، ولا ماء صافياً إلا من نبعه، وأما المصادر الأخرى فقد جربت، إنها كدرة مشوبة.

فيا أمة الإسلام!! ويا أبناء من حملوا لا إله إلا الله في ديار الإسلام، ويا من يريد الوصايا، هذه وصاياه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولكم، ولكل مسلم يريد الله والدار الآخرة.

لكل من يريد الله، ويريد ما عند الله، فاقبلوها وادخلوا أبواب الجنة فقد فتحت لكم: فحي هلاً بكم، فمن كان من أهل الذكر فالذكر نصيبه، ومن كان من أهل الصيام فالصيام حظه، ومن كان من أهل الصلاة؛ فالصلاة له، وما أحسن أن تضرب من كل غنيمة بسهم، وأن تشارك مع المصلين في صلاتهم، فإذا أنت الخاشع العابد، وأن تشارك مع الذاكرين في ذكرهم، فإذا أنت الشاكر الذاكر، وأن تشارك مع المجاهدين في جهادهم؛ فإذا أنت البطل المقدام، وأن تشارك مع الصوَّام في صيامهم؛ فإن خلوف فمك أطيب من ريح المسك.

تقبل الله منا ومنكم أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا وسيئاتكم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.

أسأل الله كما جمعنا هنا في روضة طيبة طاهرة، أن يجمعنا هناك في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم أن نرى ربنا سبحانه وتعالى، ويوم نرى رسولنا صلى الله عليه وسلم، ويوم نرى مفاتيح الخير أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، ورسل السلام وقواد لا إله إلا الله، وحملتها، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>