[معرفة حال المنصوح]
ومن آداب النصيحة عند أهل السنة أنهم يعرفون حال المنصوح.
الذي تريد أن تنصحه فعليك أن تعرف حاله، ومشاعره، ومكانته، وعمله، والمشكلات التي يعيشها، وبيئته، هذه هي الحكمة، تأتي إلى مجتمع وأنت خالي الذهن عن المجتمع، وتريد أن تتحدث عن قضية، أهل البادية لا يصلون ولا يعرفون الصلاة، وصلنا إلى بعض الجهات، فسأل سائل منهم، شيخ في الستين من عمره، قال: الغسل من الجنابة واجب، قلنا: نعم واجب فالتفت له جاره -شيخٌ مثله- قال: كلما أتيت أهلك تغتسل! أين الماء الذي يكفي؟ يقول: تصدق هؤلاء المطاوعة، كلما جئت أهلك تغتسل! أين الماء الذي يكفي؟ يفتيه بفتوى جاهلية.
فهل يعقل أن يأتي داعية إلى هؤلاء فيتكلم عن مشكلات البنوك الربوية، أو الحد من الأسلحة، أو درجات الحرارة؟ أو يأتي إلى هذا المجتمع بمشكلة الخدم والخادمات؟ هم لا يعرفون الخدم ولا الخادمات، ولا الخروج ولا السائق، وليس في البادية ولو سيارة، سياراتهم الحمير المصفنة المجنحة، فحالة البيئة، ومعرفة مع من تتحدث؛ من آداب أهل السنة إذا تحدثوا مع المدعو.
تأتي إلى إنسان تشعر بمكانته وكرامته فتهين كرامته تحت رجليك ثم تقول: اتق الله، إن لم تتق الله ليقصمنك الله، وليعذبنك عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين.
هذا لا يليق، بل أعطه مكانته، خاطبه بألفاظه، ألفاظ الوقار، ألفاظ التبجيل، والتدبيج، والتوشيح، الطعام لا يُقبل إلا بالتوابل، لو لم تفلفله وتجعل منه مذوقات ومشهيات ما أكل، فهذه الدعوة مثل ذلك، إن لم تقدمها في باقة من الود والحب واللين، وتضفي عليها شيئاً من الأنس واللطافة، ما قبلها أحد.
ولذلك كان هذا منهجه عليه الصلاة والسلام، يأتيه أعرابي من صناديد الكفر ينكر الدين، فيعطيه عليه الصلاة والسلام مائة ناقة، وفي اليوم الثاني مائة، وفي اليوم الثالث يعطيه مائة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
لا بد أن نقدم للناس خدمات، بعض الشباب كانوا في سكن جامعي، وكان عندهم شاب جار لهم، يترك الصلاة في المسجد، ويمرض، ويصحو، ولا يزورونه، مهمتهم فقط إذا حانت الصلاة يضربون بابه ضرباً ويقولون: صل يا عدو الله! صل قاتلك الله، ثم يخرجون، ويقول أحدهم: اللهم اعلم أني برأت ذمتي، وأني دعوت إليك، وكلما جاءت الصلاة ضربوا الباب، صل يا عدو الله! مرض هذا الشاب وزاره داعية في المستشفى، وقال -وهو لم يعرف سيرته- قال: يا أخي! هذا المرض درس لك في الحياة، أرى أن تتوب إلى الله، وأن تعود إلى المسجد، وما تطلب مني فأنا أخوك وأنا صاحبك، وأنت لا زلت في الإسلام وأسرتك مسلمة، وأعطاه محاضرة.
قال: يا أخي! بعد ماذا أهتدي مع هؤلاء الجيران، والله ما زاروني، لقد احتجت إلى سيارة أحدهم يوماً من الأيام فلم يفعلوا، أحتاج إلى قرضة من المال ما فعلوا، وحسب ونسب فيهم، قال: ما يعرفون إلا ضرب الباب مع كل صلاة، كيف أستجيب؟ أريد أن أصلي لكن أتذكر فعائلهم فأبقى على السرير.
ولذلك بعض الأفعال تحبط المدعو، تجعله لا يستجيب، ينكى في قلبه بنكايات، فيريد أن يقوم فيرفض قلبه، يقول له: لا تقم، لأنهم ما قدموا له شيئاً، ما قدموا رصيداً.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتلطف بالمدعو أياماً، يقول صفوان: يا محمد! أمهلني شهراً حتى أفكر في هذا الدين، قال صلى الله عليه وسلم: لك أربعة أشهر، فقبل الشهر، وقبل الأربعة الأشهر فأتى وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأحد الجاهليين من اليهود، اسمه ابن سعنة، ذكره المؤرخون، قرأ التوراة فرأى أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وصفاً واحداً، أنه صلى الله عليه وسلم، كلما زدته غضباً زاد حلماً، فأراد أن يجرب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، فرآه أبيض مشوباً بحمره كالوصف، رآه ربعةً، النور في وجهه، كل وصف رآه، لكن كيف يجربه بالحلم، ذهب وأتى بمال وقال: يا محمد! عندي مال وأنت بحاجة إلى المال، اقترضه مني إلى حين، فأخذه صلى الله عليه وسلم مقترضاً لحاجة، وقبل أن يحل الوعد أتى اليهودي في صلاة العصر، والناس مجتمعون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اقضني مالي، إنكم مطل يا بني عبد المطلب! أي: تماطلون صاحب المال، اقض مالي ثم غضب ورفع صوته، فغضب عمر، قال هذا اليهودي بعد ما أسلم: فرأيت عيون عمر تتدحرج في رأسه، يريد عمر أن يقضيه من الحياة؛ لينقله إلى الآخرة مباشرة، فأسكته عليه الصلاة والسلام، وقال: يا عمر! كان الأولى أن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن الاقتضاء، ثم قام عليه الصلاة والسلام، وكلما رفع اليهودي صوته كلما تبسم صلى الله عليه وسلم، وذهب به فأعطاه ماله وزاده، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قرأت كل صفة فيك فرأيتها كما قرأتها، إلا صفة أنك كلما أُغضبت ازددت حلماً، فرأيتها اليوم، فأنت رسول الله لا محالة، قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:١٠] قيل هذا في عبد الله بن سلام وقيل في غيره.