[توبة عبد الله بن المبارك]
وسبب القصيدة أن عبد الله بن المبارك أحد الزهاد العباد العلماء الكبار الذين يخشون الله كذلك هو في شبابه ما كان بذاك، ولكنه سمع قارئاً يقول: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٦] ثم ذهب فتعلم العلم حتى رفعه الله بالتقوى.
قصة تسبق قصة -ولا بأس في الاستطرادات- يقول أحد تلاميذ عبد الله بن المبارك: قلت في نفسي: ما أدري ما الذي رفع ابن المبارك علينا؟ يصلي كما نصلي، ويصوم كما نصوم، ويقوم الليل كما نقوم الليل، فما أدري ما السبب؟ قال: حتى سافرنا ونزلنا في حجرة في غرفة في الطريق؛ فانطفأ علينا السراج، فذهبنا فالتمسنا سراجاً، فأتينا بالسراج فأشعلناه فإذا دموع عبد الله بن المبارك تقطر من شعر لحيته، فقلت: بهذا رفع، لعله تذكر القبر وظلمته.
هذا الرجل كان مع الفضيل، وكانوا أصدقاء وأصحاباً في الحرم، فلما سمع ابن المبارك داعي الجهاد والقتال في سبيل الله في الجبهات أخذ بغلته وسيفه وترك الحرم، كان يدرس ألوف الطلاب، فأخذ تلاميذه يمسكون بالبغلة ويقولون: يا أبا عبد الرحمن! تتركنا وتذهب؟ قال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وذهب إلى الجبهة يقاتل في سبيل الله.
يقول أحد أصحابه: لما خرجنا إلى الجبهة خرج علينا فارس وهو ملثم من صف المسلمين لا يرى إلا عيناه - عبد الله بن المبارك كان شجاعاً وقوي الجسم، وأمه تركية كان يهد الجدار، ومع ذلك دموعه تتخذ في خديه خطين أسودين من كثرة خشية الله، زاهد، عابد، تاجر، علاَّمة، محدث، أمير المؤمنين في الحديث- قال: فتلثم فخرج في الصباح وقتل سبعة، فذهبنا وراءه وأتينا إلى الخيمة فوجدناه عبد الله بن المبارك، فلما أتى في الليل نظر إلى فرشنا وظن أنا نمنا وبعضنا ما نام، فقام فتوضأ في ليلة شاتية باردة وأخذ يقرأ سورة التكاثر ويبكي حتى صلاة الفجر، وفي أثناء المعركة كتب له الفضيل بن عياض رسالة يقول له فيها: تركت الحرم الذي الصلاة فيه تعادل مائة ألف صلاة فيما سواه! تركت التلاميذ! تركت الدروس! فرد عليه بقصيدة يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
فلما قرأها الفضيل بلها بالدموع هذا الفضيل تاب وأصبح من العباد الكبار وأصبح عابد الحرمين، زاره الخليفة العباسي هارون الرشيد، وكان رجلاً صالحاً رحمه الله، زار الحرم حاجاً، فقال لأحد وزرائه الفضل بن سهل أو الربيع بن سهل، قال: يا فلان! ابحث لي عن عالم يعظني هذه الليلة، فذهب إلى سفيان بن عيينة فطرق على سفيان وقال له: أمير المؤمنين هارون الرشيد في الباب يريدك.
قال: ليت أمير المؤمنين جلس وكنا أتينا إليه، فأتى فحدثه فأعطاه مالاً، فقال هارون لوزيره: ما شفيتني ابحث لي عن آخر، فذهب إلى الفضيل: فطرق عليه الباب، وإذا الفضيل يبكي في الليل ويناجي الواحد الأحد، فقال الفضيل: من طرق علينا هذه الليلة؟ قال: أمير المؤمنين هارون الرشيد يريدك، قال: مالنا ولـ هارون الرشيد أمير المؤمنين، أما يكفيه ذنوب الأمة، ذنوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم يسألونه يوم القيامة حتى يدخلنا معه في هذا الذنب، قال: يريدك وطاعته عليك واجبة، قال: ماذا يريد مني؟ يقطعني عن صلاتي وعن عبادتي، قال: يريدك، قال: إن كان يريدني فليأت، فذهب إلى هارون الرشيد وقال: إن كنت تريده فتعال.
قال: فقمنا، فطرقنا الباب، ففتح لنا وهو يبكي من آثار صلاة الليل، قال: ولما دخلنا وإذا بسراجه في طرف البيت فقام الفضيل إلى السراج فأطفأه فأصبحنا في الظلام، قال هارون الرشيد: مالك أطفأت السراج؟ قال: هذا أهون من ظلمة القبر يا هارون الرشيد.
قال: عظني وانصحني، قال: يا هارون! إنك جميل الوجه وصبيح المنظر، فالله الله فلا تخيب وجهك ولا تسيئه بنار جهنم؛ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، قال: زدني-كان هارون الرشيد رجلاً صالحاً من بني العباس- قال: زدني، قال: يا هارون! يوم القيامة يسأل كل واحد عن نفسه، وأنت تجمع أمة محمد من في عصرك في صعيد واحد فيسألك الله عنهم؛ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، قال: يا فضيل! تريد منا شيئاً، قال: والله ما أريد منك شيئاً، أريد أن تنقذ نفسك من النار، فخرج الخليفة ثم أخذ يمسح دموعه، وأخذ يقول لوزيره: إذا دللتنا على رجل فدلنا على مثل هذا.
هذا هو الفضيل، وقد رزقه الله بابن اسمه علي، تكلم عنه ابن تيمية في الفتاوى وترجم له، يقول ابن تيمية: ثبت أن بعض الناس مات من القرآن سمع القرآن فمات مثل علي بن الفضيل بن عياض، كان فيه خشية الله أعلم بها حتى كان أبوه يصلي بالناس فينظر هل ابنه وراءه في الصف، فإذا كان وراءه يقرأ من الآيات التي فيها رجاء وفيها قصص وما يقرأ من آيات الخوف، وفي يوم من الأيام قام الفضيل لصلاة الفجر وظن أن ابنه ليس معهم، فقرأ من الصافات، حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا َتَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:٢٤ - ٢٦] قال: فأغمي على ابنه وسقط فحملوه فإذا هو ميت، وقد أوردها الذهبي وابن تيمية وأسانيدها صحيحة، وهو ممن صعق بالقرآن، فلما أخبر الفضيل بموت ابنه بالقرآن ضحك، وقال: الحمد لله، وسئل ابن تيمية: كيف يضحك الفضيل والرسول صلى الله عليه وسلم بكى على موت إبراهيم وقال: {إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون}؟
فقال ابن تيمية: الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل حالاً؛ لأنه جمع بين الرضا والرحمة في آن واحد، والفضيل ما استطاع أن يجمع بينهما فأخذ الرضا وما أتى بالرحمة، وصدق ابن تيمية رحمه الله، وهذا هو العلم والذكاء المطلوب، فقال: حال الرسول أكمل.
فهذا أحد الناس الذين توجهوا إلى الله عز وجل، وعرفوا طريقه فأنقذهم الواحد الأحد.
والذي يُطْلَب منا أن نصدق مع الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩].