للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تكملة قصة أصحاب الفيل]

فلو كان عبد المطلب موحداً لخرج بالأكفان ولأعلن صيحةً على الصفا، ووقف عند الحجر الأسود وألقى خطبة توحيد حماسية، لكن ماذا فعل؟

ترك الساحة وأتى إلى كفار قريش وهم منهارون ليس عندهم مبدأ قال: تسلقوا رءوس الجبال، واحتموا برءوس الجبال، فخرج ليأخذ أطفاله ويحملهم ويأخذ زوجته بيدها ويترك أمواله، حتى إن بعض المفسرين يقول: تركوا الذهب وحفروا له حُفَراً.

انظر إلى الجبن! خائفون من الكيماوي! وفروا إلى رءوس الجبال، ومن كان لديه قليل من الذهب والفضة حفر له في الأرض وصعد بأهله وبذريته إلى رءوس الجبال، أما عبد المطلب وهو القائد العسكري وأشجع القوم فقد بقي لحظات، فتذكر أن إبله في المغمس ترعى قدرها مائتا جمل، فأخذ عصاه وذهب بأعيان مكة، وقال: استأذنوا لي على أبرهة أكلمه، وظن أبرهة أن الرجل سوف يفاوض وأن عنده اقتراحات وأنه قبل (١٥) يناير عنده خطط سلمية، قبل الاعتداء!! وعبد المطلب هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان جميلاً طويلاً كأنه القمر ليلة أربعة عشر، وكان داهية من دهاة العرب؛ لأن الله لا يرسل إلا من أناس ذوي رِفعة، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب}.

فلما رآه أبرهة خشع له ووقره ونزل عن سريره واستقبله على البساط في الأرض، قال: ما عندك؟ قال المترجم: يريد رد ماله وإبله، قال: ظننتُ أنك عاقل رشيد، بيتك ودينك ودين آبائك أتيت أهدِّمه، وتطلب في الجمال! ردوا له جماله أما البيت فسأجعله حتى أجعله قاعاً صفصفاً، وكان عبد المطلب ذكياً؛ لأنه يدري أن المقاومة فاشلة ومنتهية طبعاً، فالمشركون لا يستطيعون المقاومة، فلاحظوا أن أولئك أقرب إلى الله؛ لأن أبرهة نصراني أقرب إلى الله من حيث الديانة المسبقة، قال: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، فسلَّم له الجمال وأخذ يسوقها حتى أدخلها في بيته بـ مكة، ثم أخذ حلق الكعبة ووقف يهزها وهو يخاطب الله:

يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالَكْ

لا يغلبنَّ صليبهم ومحالهم أبداً محالَكْ

يقول: يا رب! الرجل منا يمنع بيته ويحمي بيته بالسلاح، وأنت احمِ بيتك، أنت الذي كلف إبراهيم عليه السلام أن يبنيه، امنع بيتك واحمِ بيتك، ثم قال: لا يغلبن صليبهم، أتى بالصليب، والصليب قديم، وسوف يبقى ما بقوا في الأرض يقول: إنهم أتوا يحملون الصليب أنا رأيتهم، قال:

لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالَكْ

ثم ارتفع، فلما صعد إلى رءوس الجبال بعد أن علم أن المحاولة فاشلة، وأنه لا يستطيع المدافعة، فوقف كفار مكة يتفرجون كيف تُهْدَم الكعبة، وينظرون من أين يدخل أبرهة الآن ورأوا أطفالهم عندهم وزوجاتهم وشاهدوا الموقف؛ ولكن يقول الله عزَّ وجلَّ: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:٧٩ - ٨٠] توقف الدهر وتوقف التاريخ، وانتظر الناس ما سيحدث، فليس هناك قوات مسلحة أصلاً تحمي البيت، وليس هناك حكومات موجودة تحمي علم الإسلام، وليس هناك صواعق تنزل، ولا رياح يشاهدونها ولا طوارئ في الكون لكن انتظروا، وحرَّك أبرهة الفيل، الآن بدأ الهجوم، حركه في المحسر، فمضى الفيل قليلاًَ ثم لف وجهه إلى الجهة اليمانية، فضربوا وجهه وحوَّلوه فأبى أن يذهب، أي: (غرَّز) حاولوا فيه ولكنه رفض، يوجهونه إلى اليمن فيمشي، ويوجهونه إلى البيت فيأبى، لأن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يأبى.

لما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ونزل على الصلح حرَّك ناقته فوقفت مكانها، فضربها صلى الله عليه وسلم فرفضت، فأتى الصحابة قالوا: {خلأت ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام -أي: انهارت وفشلت وخارت قواها-قال صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده، ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن أدركها ما أدرك الفيل}.

فلا تحسبن هنداً لها الهجر وحدها سجية نفس كل غانية هندُ

لا تحسب الناقة أن هذا هو سببها، بل سببها هو سبب الفيل، والفيل سببه هو سبب الناقة.

وحينها ترجل عليه الصلاة والسلام وأراد المصالحة، وأخذ سهيل بن عمرو يصالحه، لأنه تذكر صلى الله عليه وسلم أن الناقة خافت، لأن هذا البيت له قداسة والله سبحانه وتعالى يحميه.

في الأخير: أمر أبرهة أن يتحرك الجيش، فبدأت الطوابير تزحف؛ ولكن قدرة الباري سبحانه وتعالى أعظم، وإذا بجبال مكة تُثار بطير أتت من جهة البحر -كما قال بعضهم- وقال بعضهم: بل خلقت من شيء من السماء، بكلمة (كن) فكانت، وسمعت أنا بعض العصريين يقول: انطلقت من قواعد {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:١١٧] والحقيقة أني رأيت في (تفسير القرطبي) أنه أتى بأمور عجيبة، وقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[كان للطير مخالب كمخالب الكلاب]] وقال بعضهم: كان الطائر الواحد يحمل ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجر في رجله اليمنى وحجر في رجله اليسرى، وسارت كالغمامات، حتى أن صاحب (الظلال) يسميها: جولات استطلاعية.

ولك أن تسميها أنت؛ لكن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يهلكهم بهذا، فثارت عليهم ثم وقفت على رأس البيت كالغمامة، وأخذت تنزل حمولتها؛ لكن الصحيح عند أهل العلم أنها لم تعُد مرة ثانية لتحلِّق، كانت الواحدة منها فقط تنقل مرة ثم تذهب ولا تعود، فأصابت أول الحجارة، فكانت لا تُخْطئ، وقال: لم يخطئ ولو حجرٌ واحدٌ جندياً واحداً؛ لأن الرامي هو الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧] فالرامي حقيقةً هو الواحد الأحد.

رمى بك الله جنبيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يُصِبِ

وبقيت على هذا فترة، قالوا: وكان كلما انتهى فوجٌ منها أتى فوج، وقالوا: وكانت تأتي من جهة البحر الأحمر، حتى أن بعض المفسرين قالوا: ربما ثارت من جانب البحر، أما الحجارة فليست من حجارة الدنيا، بل صنعها الله بكلمة (كُنْ) وقال مجاهد: لفَّتها الريح حتى اشتدت فأصبحت حارة قوية، فكانت الطيور ترمي على الناس، وكان تقتل الجيش حتى قُتل كل الجيش، ولم يبقَ إلا أبرهة واثنان أو ثلاثة معه، أما أبرهة فأراد الله أن يعذبه، فتساقط جسمه أُنْمُلة أُنْمُلة، فكان كل عضو يسقط منه، حتى أصبح كالفرخ الصغير في صنعاء، ثم تفجر صدره وخرج قلبه منه {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:١٦] وقالوا: الفيل أخذ حسابه وقُتل في المحسر، حتى أن بعضهم قال: بل رجع ثم أرسل الله عليه صاعقة فأحرقته.

إن من المهم أن الله أهلك هذا الجيش، وهو ستون ألف مسلح من أقوى جيوش العالم في ذاك العصر، مع أقوى قائد، أرسل الله عليهم طيراً أبابيل، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لأعدائه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:٢٩] وفي سورة يس يقول: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس:٢٨] قال أهل العلم: لأنهم لا يستحقون أصلاً أن يرسل عليهم بجنود من الملائكة، فهم أصغر وأحقر من ذلك، بل يكفيهم طير، كما أن النمرود لما عصى الله وتعدى حدوده وانتهك محارمه؛ سلط الله عليه بعوضة، فدخلت في أنفه فوَلْوَلَت وأهلكته.

فأعداء الله يهلكهم سبحانه وتعالى بمصارع سهلة سهلة حتى يُضْحِك عليهم التاريخ والدهر.

هذا ملخص القصة، ولكن نعود مع قضايا السورة، والعجيب أن الله عزَّ وجلَّ في كتابه سبحانه وتعالى لم يدخل في تفاصيل القصة؛ لأنه ليس هناك مصلحة تتعلق بها، ولذلك لا يتكلف العبد أن يأتي بأمور ما وردت في الأحاديث الصحيحة، إنما أتى الله بموجز عن القصة يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:١] وإنما سماهم أصحاب؛ لأنهم اصطحبوا معهم الفيلة واغتروا بقوتها، وهم أقل عقولاً وتدبيراًَ وذكاءً من الفيل، وكما يقول العرب:

أَرَبٌّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب

ولقد خاب من كانت سيادته بيد الفيل، ولقد خاب من سماه الله عز وجل صاحب الفيل، فجعلهم الله عزَّ وجلَّ نكالاً للآخرين.

أما الفيل -أيها الإخوة- فإن سبب اختياره -وهذه لمحة وقد أشار الجاحظ في كتابه (الحيوان) إلى شيء من هذا- هو:

أن الفيل أكبر الحيوانات؛ ولذلك استطاع أن يمشي معهم.

ثم إنه غبي؛ ولذلك ورطوه في هذه المقتلة، والواجب عليه -لو كان عنده ذرة عقل- ألا يتدخل معهم في هذه الحرب الخاسرة؛ لأنها مكشوفة من أول الطريق؛ لكنه ثقيل الدم، حتى أن ابن الرومي يقول لأحد الثقلاء:

أنتَ يا هذا ثقيلٌ وثقيلٌ وثقيلُ أنتَ في المنظر إنسانٌ وفي الميزان فيل

وتقول العرب: لا يحس الفيل بالخوف أبداًَ؛ ولذلك اختير لأن يكون في أول الجيش، وتقول العرب: الخيل إذا رأى الهجوم فر، والحمار إذا رأى الهجوم فر، والبغل إذا رأى الهجوم فر، إلا الفيل فإنه لا يفر؛ ولذلك قاتل به أنو شروان، ورستم في القادسية، وقاتل به الأعاجم دائماً، فهو لا يفر؛ لأن قلبه ثقيل؛ حتى يقول كعب بن زهير:

لقد أقومُ مقاماً لو أقومُ به أرى وأَسْمَعَ ما لو يسمع الفيل

ُ

يظل يرعد إلا أن يكون له من الرسول بإذن الله تنويل

يقول: يا رسول الله! سامحني، اعف عني، والله إنك خوَّفتني يوم أهدرتَ دمي إلى درجة أن الفيل لو هدَّدتَه لخاف وهو فيل، فكيف بي أنا عبد؟! فاختير لهذا، ويُجْمَع على: أَفْيال، فِيَلَة، وفُيُول، هكذا جمعُه، وما علينا مِن جمعِه؛ لكن الله جمعه وأصحابَه في وادي محسر وأهلكهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>