[كره العرب للبخل والبخلاء]
للطعام آداب تربو على ثلاثين أدباً، نذكر ما تيسر، والعرب في جاهليتها وفي إسلامها تفتخر بإطعام الطعام، وكل ذنب يغتفر عند العرب إلا البخل، العرب في الجاهلية يوطئون رءوسهم للكذاب، ولشاهد الزور، وللنمام، ولشرس الأخلاق، ولكن إذا سمعوا أن هناك بخيلاً أنفوا وغضبوا وأنكروا وشجبوا ونددوا.
ولذلك وفِد وفد بني سلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من سيدكم يا بني سلمة! قالوا: سيدنا الجد بن قيس على بخل فيه، قال صلى الله عليه وسلم: {أواه، وهل داء أدوى من البخل، بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح} فألغى صلى الله عليه وسلم سيادته، وخلعه؛ لأنه بخيل لا يستحق السيادة، ولأمر آخر ذكره بعض أهل العلم، قالوا: إنه منافق.
الجد بن قيس هذا شيخ كبير، لكنه كبير في الضلالة والجهالة، ملأ النفاق قلبه، لما استنفر صلى الله عليه وسلم الصحابة لغزوة تبوك، قال: يا رسول الله! إذا رأيت النساء فلا أصبر، فكيف إذا رأيت نساء بني الأصفر -أي: نساء الروم- ائذن لي ولا تفتني.
يقول: اتركني في المدينة ولا تفتني، فأنزل الله رداً عليه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:٤٩].
قال سلمة بن الأكوع: ما أنسى الجد بن قيس بعد بيعة الرضوان -الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة- أتى هذا الرجل فضاع بعيره، فقالوا له: تعال بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لأن ألقى جملي أحب إلى من أن يستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: تب إلى الله واستغفر فأتى ولوا رأسه، فنقل الله الحدث والصورة والمقالة والهيئة، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:٥] ويقول تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:٨٠].
ولذلك فهم صلى الله عليه وسلم أن السبعين ليس حداً للعدد، فقال: {والذي نفسي بيده، لو أعلم أني لو زدت عن السبعين مرة فغفر الله لهم لاستغفرت الله لهم} ولكن يقول عز وجل على سبيل المثل، كقولك: لو حياك سبعين تحية فلا تدخل بيته، وهو لو حياك سبعين تحية ما دخلت، وبسط هذا في موضع آخر.
الشاهد: أن الضيافة عند العرب من أعظم الأمور، ولذلك روى الترمذي في سننه بسند حسن، عن عبد الله بن سلام، وأصله يهودي لكن منَّ الله عليه بالإسلام، وهو الذي ذكره الله في سورة الأحقاف، قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:١٠].
فالشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام هذا، وقال عنه صلى الله عليه وسلم لما أسلم وغيره: {لو آمن بي عشرة من علماء اليهود لآمن بي اليهود جميعاً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فـ عبد الله بن سلام يقول: سمعت الناس انجفلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المدينة -انجفلوا: أي: سعوا وجروا وهرولوا- قال: فانجفلت مع من انجفل، سمع الضجة والصجة وسمع الناس يحتشدون فاحتشد معهم، قال: فأتيت فإذا هم في سوق المدينة، قلت: من؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من مكة وعبد الله بن سلام يقرأ التوراة بين يديه، ويعلم أوصاف الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: فنظرت إليه، فلما استبنت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، ولذلك يقول ابن رواحة: لما رأى وجه الرسول عليه الصلاة والسلام:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبئك بالخبر
يقول: يكفي أنه لا يأتي بمعجزات، يكفي أن تنظر إلى وجهه وحسب، وقالوا لـ أبي هريرة: {كيف كان وجهه صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان كالقمر ليلة أربعة عشر} وقال: غيره، كأن الشمس تجري في وجهه صلى الله عليه وسلم، قال: فلما استبنت وجهة -يقول: ابن سلام - عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: فسمعته يتكلم -اسمع لكلمات الرسول عليه الصلاة والسلام- يقول: {يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} راوي الحديث عبد الله بن سلام، وآخر الحديث سلام، رواه الترمذي بسند على رجاله السلام.