[حكم نقل القبر]
السنة ألا ينقل القبر وأن يبقى إلا لحاجة، كأن يتضرر الميت أو يتضرر الحي من بقاء القبر في هذا المكان، فـ جابر رضي الله عنه كما في الصحيح نقل قبر أبيه لما أجرى معاوية العين من وراء جبل أحد إلى المدينة، فطلب منهم أن ينقلوا الشهداء؛ لأن العين تمر عليهم، قال جابر: [[فنقلت أبي بعد ست وأربعين سنة فوجدته ما تغير منه شيء، وكان ريحه كريح المسك]] أبو جابر هذا هو عبد الله بن عمرو بن حرام، الذي كلمه الله كفاحاً بلا ترجمان، وقد قتل يوم أحد، يقول جابر: {قتل أبي فرأيته مغطى أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فاقتربت منه فأخذت أرفع الثوب وأبكي فما نهاني صلى الله عليه وسلم، والناس ينهونني}.
حتى جاءت عمتي -أخت هذا المقتول- فقالت: يا رسول الله! أخي في الجنة فأصبر وأحتسب؟ أم هو غير ذلك فسوف ترى ماذا أصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أهبلت؟! أجننت؟! أهي جنة واحدة؟ والله إنها لجنان كثيرة وإن عبد الله في الفردوس الأعلى، قال جابر: فلما وصلنا المدينة حملنا أبي والشهداء على الجمال، فدخلت بهم الجمال مع الغروب إلى المدينة ليدفنوا في المدينة، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعيدوا الشهداء يدفنوا في مضاجعهم فأعادوهم.
وفي يوم أحد وقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو متأثر لأنها شبه هزيمة، قتل سبعون من أصحابه، وقتل عمه وشج صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته، وأتاه من الكلل والإعياء ما لا يعلمه إلا الله، فقام صلى الله عليه وسلم فقال: {صفوا ورائي لأثني على ربي} ما أحسنها من كلمة في هذه الأزمة وفي هذا الموقف، فصف الصحابة بعده -هذا من السيرة استطراداً مع هذه القضية- فلما صف صلى الله عليه وسلم يثني على الله عز وجل، وإذا بـ أبي بن خلف؛ ذاك الفاجر المجرم الذي لم يقاتل في المعركة، وكان من كفار قريش، وإنما كان يترصد ويريد أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فاعتزل المعركة وأتى بسيف يقولون: سمه بالسم شهراً كاملاً حتى أصبح السيف أزرق، وعلف فرسه من البر، وقال: أقتل محمداً على هذا، فلما أخبر صلى الله عليه وسلم، قال: أنا أقتله إن شاء الله، فلما وقف صلى الله عليه وسلم يدعو نزل ذاك بفرسه من الجبل، يقول بعض الصحابة: ظننا أن الجبل أقبل معه، من قوة الرجل وقوة الفرس ما قاتل من أول النهار، وإنما أراد أن ينهك صلى الله عليه وسلم من كثرة المقاتلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل من الصباح إلى العصر، وهو جائع وعاطش ومرهق، فيأتي هذا فيستغل هذه الفرصة ويستغل نقطة الضعف.
فيتحرك الصحابة يريدون أن يباغتوا هذا، وبينهم من هو أشجع منه بمئات المرات كـ الزبير وعلي وكغيره من الصحابة، فأشار صلى الله عليه وسلم أن اتركوه، فلما قارب صلى الله عليه وسلم إنهاء الدعاء، قال: ناولوني حربة، فناولوه حربة صلى الله عليه وسلم فهزها، ثم قال: بسم الله، فأطلقها، وذاك الرجل قد تدجج تحت ثيابه بدرعين اثنين، حتى يقولون: ما ترك من جسمه شيئاً لأنه كان حذراً من مثل هذه الضربة، وترك موضعاً كالدرهم.
فلما قال صلى الله عليه وسلم: باسم الله.
أرسلها فوقعت في ذاك الموضع، فسقط صريعاً على وجهه ثم حمله الكفار، وقالوا: لا بأس عليك، وقالوا: ما خرج من الدم إلا كالدمعة الواحدة، فقال وهو يحلف بلاته وعزاه: لو أن ما بي بأهل ذي المجاز -وهي سوق عظيمة عند العرب- لماتوا عن بكرة أبيهم، فقربوه من النار، يريدون أن يسروه بالنار حتى لا تأتي الطيور عليه بالجراثيم، فمات عند النار وسوف يدخل النار إن شاء الله.
قال جابر: فلما دخلنا المدينة قال عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك وإخوانه الشهداء؟ قال: لا.
يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد كلمهم كفاحاً -يعني: مباشرة بلا ترجمان ولا ستار- وقال: تمنوا عليَّ، قالوا: نتمنى أن تعيدنا في الدنيا لنقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنوا، قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، قال: فإني أحللت عليكم رضواني ولا أسخط عليكم أبداً، فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد الجنة، فتأكل من أشجارها، وتشرب من مائها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها}.
وهذا حديث صحيح، وأنزل الله مصداق ذلك: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٦٩ - ١٧١].