للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[خدمة الضيف وتحيته]

أولها: الخدمة، فإن المتكبر ولو أطعم طعامه ليس لطعامه طعم ولا مذاق، وبعض الناس إذا دخل عليه ضيفه في بيته ما خدم ولا حيّا ولا رحب ولا تكلم ولا انبسط، يجلس على كنبة منذ يدخل الضيف إلى أن يخرج، ويقبض وجهه، ولذلك يقول بشار بن برد:

وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود

ولذلك يقول الأول الأزدي -جدكم يا بني الأزد-:

أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب

وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب

ولذلك قال بعض أهل البلاغة: مصداق هذا البيت من كتاب الله عز وجل.

قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٧] فإن موسى كان ضيفاً على الله عز وجل في طور سيناء قبل أن يكلمه الله بالوحي ويرسله برسالة التوحيد، والله تعالى يعرف أنها عصا، ويعرف أن هذا موسى، ويعرف أن هذا الجبل هو الذي خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وخلق العصا وخلق موسى، لكنه لو نادى موسى لأول وهلة، وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:١٤] كان هلع وخاف، فأراد أن يلاطفه وأن يوانسه وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٧].

ولذلك العرب إذا دخل عليهم الضيف، قالوا: كيف حالكم؟ هل أتاكم من مطر؟ ما اسمك؟ ومن أي قبيلة أنت؟

وفي سنن الترمذي بسند فيه نظر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا تعرف أحدكم على أخيه فليسأله عن اسمه وعن نسبه فإنه واصل المودة} فالله عز وجل يقول: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٧] فهش وبش للخطاب، وزاد في الجواب، قال الحسن البصري وهو يقرأ هذه الآية رحم الله موسى، سأله الله بكلمة، فأجاب بكلمات شوقاً في الخطاب، كان الجواب في لغة العرب لما قال له الله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٧] أن يقول: هي عصا، لكن تحرك وألقى محاضرة، فقال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:١٨] فأراد أن يستطيل في الكلام، فقال الله عز وجل: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:١٩].

قالوا: هذه العصا كانت هي الرسالة، وكانت عليها الأحداث، وكانت أم الأخبار، وما أدراك ما أخبارها؟!

فألقاها فإذا هي ثعبان فولى وتركها، وقبل أن يدخل خلع حذاءه، وبعد أن خرج ترك عصاه، وفي الأخير أخذ ينجو بنفسه، فناداه الله، ولكن موسى كان ذكياً فاهماً شجاعاً؛ ولذا سماه الله القوي الأمين، فعاد إلى الله عَزَّ وَجَلّ -ولا بأس بالاستطراد في هذا ولو أنه ليس مفاد الدرس- فلما عاد إلى الله قال له الله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:٢٤].

ليته أرسله إلى بني كنعان في أريحا، أو إلى أهل العراق، لكن أرسله إلى الخصم اللدود الذي يطارد موسى في الجو والأرض، فماذا قال موسى -انظر إلى ذكائه وفطنته وفقهه في دين الله- قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:٢٥] وهذه أول منة يمنها الله على العبد، ولذلك امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، أول منة فقال له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:١] ثم قال: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:٢٦] القصة.

إذاً فأول ما يأتي الخدمة وهي طلاقة الوجه، ولذلك يقول المقنع الكندي:

وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا

يقول: أنا بي صفة من صفات العبد، ولكن لست بعبد أنا حر، لكن إذا نزل الضيف كنت عبده، ولذلك في صحيح البخاري، قال المغيرة بن شعبة: {استضافني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ يقطع لي اللحم بيده عليه الصلاة والسلام} رسول البشرية عليه الصلاة والسلام يستضيف أحد أصحابه فيقطع له اللحم ويضيفه، وكان عبد الله بن المبارك إذا دخل عليه ضيوفه قام فخدمهم، فلا بد في أمر الضيافة من الخدمة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>