للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لقاء حار بفضيلة المحدث الكبير محمد ناصر الدين الألباني]

الخبر الخامس: وصل إلى مكة وجدة قبل ثلاثة أسابيع أو أربعة العلامة الألباني وكانت من فرص الحياة أن أرى ذاك الرجل، كنت أتمنى من الله الواحد الأحد أن أراه، وهو رجلٌ عجيب أفنى عمره في العلم, وهو الآن يقارب التسعين من عمره، ما يقارب ستين سنة منها في خدمة الحديث النبوي، حتى كأنه ما مر بحديث إلا خرجه أو تكلم فيه.

أتدرون ما هي بداية حياته؟ من أراد منكم أن يعرف ذلك فليعد إلى علماء ومفكرون عرفتهم والشيخ ليس له شيخ، ولم يتعلم في مدرسة، ولم يدخلها بل تعلم من أبيه بعض الفقه الحنفي، ثم جلس يصلح الساعات في دمشق في الشارع العام، وإذا كان عندك ساعة معطلة فإنك تعطيها الألباني ليصلحها، وكان دقيقاً في علم الساعات، يركب الساعات الخراشة البيتية والساعات الصغيرة، ولا زال إلى الآن يجيد تصليحها إذا خربت.

فأكسبته هذه الدقة والصبر, حتى مر به بعض الناس بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، فرأى تخريج العراقي له في الحاشية، فأعجبه التخريج، فأخذ هذا التخريج فكتبه في أوراق أخرى، ثم قال في نفسه -حكمة بالغة من الله-: لماذا لا أخرج مثل هذا التخريج، فأخذ يخرج من الكتب، ثم فتح الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فجمع الصحيحين ثم السنن، ثم المسانيد، ثم المعاجم، ثم كتب الرجال، ثم كتب الأطراف، ثم دخل مكتبة الظاهرية، ففتح الله عليه فتحاً عظيماً، والرجل من أجلد الناس وأصبرهم يجلس في المكتبة عشر ساعات، يقولون: لا يرفع رأسه، ويقولون: عنده سلم في مكتبة الظاهرية يصعد في السلم ليبحث عن حديث، فيبقى على رأس السلم ما يقارب الساعتين أو الثلاث وهو واقف، يبحث عن المخطوطة ويردها، ويناقش الحديث.

أما بالنسبة لمصدر دخله وكسبه أثناء ما كان يشتغل بالحديث، فإنه كان عنده (تاكسي) يشتغل فيه يومين لأهله، ثم يعود بقية الأيام يبحث في الحديث، كان فيما قيل: يوضع له الإفطار في الصباح فلا يدري أن الإفطار وضع له حتى يؤذن للظهر فيتنبه، فإذا الإفطار قد برد وقد رزقه الله جلداً وحباً في قراءة كتب الحديث, والله إذا أراد بعبد خيراً حببه إلى هذا المسلك، فأخرج كتباً لم يسمع الناس بمثلها، وفيها تخريجات عجيبة.

رأيته وهو طويل البنية، إذا رأيته تعرف أن هذا بخاري، ليس في رأسه ولا في لحيته شعرة سوداء، بل قلنسوته بيضاء، ووجه أبيض مشوبٌ بحمرة، ولحيته بيضاء، وثوبه أبيض {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥].

والشيخ مصاب -شافاه الله- وذات مرة قال للطلاب في جدة في اجتماع ما: ادعوا لي بالشفاء علِّي أن أكمل كتب الحديث؛ فانهار المسجد بالبكاء ودعوا له بالشفاء، أسأل الله أن يشافيه، فإنه مريض في أرجله، ومع ذلك يقود السيارة هو بنفسه، وقد أتى بالبر ولم يأت بالطائرة من الأردن، وبعض الشباب يمزح يقول: إن الشيخ يتجاوز السرعة وقد أساء إلى المرور فإنه أسرع مائة وستين الله أعلم، لكن على كل حال هو يقود السيارة حتى في جدة ومكة ومعه الشباب، ومرضه في أقدامه كان يُدَلَّك وهو جالس.

ظفرنا به في مكة:

أيا ليلة من أنسها وعطائها على أنها في ساعة الوجد حلت

ليلة مع الألباني، كانت ما يقارب ثلاث ساعات، وكانت الأسئلة كما يلي:

أولاً: رحبت به بقصيدة وسوف تنشر -إن شاء الله- لكن ليست بطويلة ما أمكنني الوقت، قلت في بعض الأبيات:

هاكم سلام الله يا إخواني قولوا رعاك الله يا ألباني

يا حافظاً سنن الرسول بعصرنا كـ الترمذي أو أحمد الشيباني

يا دارقطني الشريعة إنني أشكو إليك وحبكم أشجاني

إلى آخر ما قيل، ثم سئل الشيخ في تلك الجلسة ما يقارب عشرين سؤالاً، وهي مسجلة في أشرطة وقد سألته خمسة أسئلة للفائدة.

السؤال الأول: أيها المحدث الكبير! سمعنا أنك أفتيت، وقد كتبت في آداب الزفاف بهذا، بأن الذهب المحلق لا تلبسه النساء؟

-هذا فتوى الشيخ وهي مشهورة، حيث إنه حرم الذهب المحلق للنساء، وقد رد عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رداً عجيباً وهو قول مخالف للإجماع- فما رأيكم خاصة أنه كتب بعض الفضلاء كتاباً يرد على فضيلتكم وفي شريف علمكم أن الأدلة واردة في ذلك، وهو كتاب (المأنق في إباحة الذهب المحلق وغير المحلق للنساء) للأستاذ مصطفى العدوي جزاه الله خيراً.

فأجاب الشيخ بإجابة طويلة في الشريط ولم يرجع عن رأيه, والرأي الصحيح هو خلاف ما رأى الشيخ، لأن الله يريد أن يتفرد بالكمال، لأنه لو كان العالم لا يخطئ في مسألة لتصور الناس فيه بعض التصور، لكن مهما أتيت من عالم فلا بد أن يخطئ، قال مالك: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر، أي: محمد صلى الله عليه وسلم, بأبي هو وأمي، فالعالم له خطأ، ولكنه إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد.

ثم سألت الشيخ عن رواية أبي الزبير في صحيح مسلم فأجاب إجابة يعرفها المتخصصون في الحديث، وذكر أن هناك اصطلاحات لـ مسلم يعرف الروايات التي يرويها أبو الزبير عن جابر؛ لأن أبا الزبير يعنعن وهو مدلس، ثم سألته عن رواية المبتدع، وعن بعض الأحاديث الضعيفة التي نسبت إلى مسلم، وعن بعض المسائل، ثم سأله بعض المحبين.

إنما الطريف في الجلسة تواضع الشيخ الجم، حتى تشعر أنك أمام رجل عادي بسيط، وهو عالم يتسابق الطلبة عند حذائه، إذا أراد أن يخرج حاولوا أن يركبوا حذاءه في رجله فيرفض؛ لأنه ليس بالسهل، رجل عالم، أفنى ستين سنة من عمره في كتابة الحديث، وتقديم الحديث للمسلمين، والعجيب الذي أعجبني فيه صبره، لا إله إلا الله ما أصبره! يجلس الجلسة الواحدة أربع ساعات يتحدث لا يمل، حتى تقول أنت: قف.

سألته عن الحديث الضعيف هل يستدل به في فضائل الأعمال أم لا؟ فبقي يجيب ويجيب ويجيب! حتى قلت له: يا فضيلة الشيخ! لا نريد أن تلقي محاضرات بل نريد أن تجيب على الأسئلة حتى نستفيد منك أكثر وأكثر، فيقف، لكنه في هذا الفن مثل البحر.

يقول الألباني: هنا نصل إلى نتيجة أن كون حديث ما ضعيفاً لسبب أن إسناده ضعيفٌ أو حسن أو صحيح عند البعض بسبب أنه تتبع طرقه، هذه قضية نسبية، ولذلك فلا ينبغي لطالب العلم أن يشكل عليه أمر اختلاف المحدثين القدامى فضلاً عن المشتغلين بالحديث اليوم، أن هذا يحسن وهذا يضعف؛ لأن هذه قضية لها أسباب توجب الاختلاف أكثر من الأسباب التي توجب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية؛ لأن الحكم الواحد قد يكون مرجعه إلى نص واحد من الكتاب أو السنة، ومع ذلك تختلف الآراء وتختلف الاجتهادات.

أما الاختلاف في تصحيح حديث أو تضعيفه فهو أشكل بكثير من ذاك الاختلاف الفقهي؛ لأن مرجعه إلى ما ذكرته آنفاً، إلى أن بعضهم وقف في نقده للحديث على الإسناد الواحد؛ فضعف الحديث، والآخر وقف لهذا الحديث على أسانيد أخرى فحكم بمجموعها على تحسين الحديث، وقد قلت لكم فيما أظن في الأمس القريب: إن علماء الحديث قد نصوا في المصطلح أن طالب العلم إذا رأى حديثاً بإسناد ضعيف فلا يصح له أن يقول: هذا حديث ضعيف، وإنما يعبر عن واقعه بأن يقول: إسناده ضعيف، وهذا من دقتهم في نقدهم، وفي اصطلاحهم؛ لأن ثمة فرقاً واضحاً جداً بين أن يقول القائل: هذا حديث ضعيف؛ لأنه يعطي حكمه حول الحديث، وبين أن يقول: إسناده ضعيف؛ لأنه يقتصر في حكمه على الإسناد.

هذا الحكم لا ينافي قول من قد يقول: حديث إسناده حسنٌ، أو إسناده صحيحٌ؛ لأنه لا يعني الإسناد الذي ضعفه الأول، وبالأولى والأحرى إذا قال: حديث حسنٌ أو حديث صحيح، فلا ينافي قول من قال: إسناده ضعيف؛ لأنه: يعني أنه حسن أو صحيح بمجموع طرقه.

إذا عرف هذا التفصيل، حين ذاك يجب على طالب العلم أن يتذكر الحقيقة التالية، وهي:

إنه ليس من نشأ في هذا العلم يجب أن يعتمد على بحثه؛ لأنه يكفي أنه ناشئ وسائر في هذا الدرب من أوله، فما ينبغي أن تتشوش أفكار الطلاب لمجرد أن ظهر إنسان له بحث ما في حديث ما، فيقول: بعض الباحثين ضعف هذا الحديث؛ لأن الأمر أقل ما يقال فيه: لماذا ضعفه؟

ولما أتت وجبة العشاء، قال لنا الشيخ: أستأذنكم، أنا لا أريد العشاء، أنا لا أتعشى، يقولون: تمر به أيام لا يأخذ إلا كأس ليمون، ومع ذلك هو من أجلد الناس، يبقى ينحت في الكتب من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء، ومن العشاء حتى ينام.

فقولوا لي يا طلبة العلم: ماذا نريد أن نحصل عليه من العلم إذا كان أحدنا إذا أتى الصيف قال: حرٌ، إذا أتى إن شاء الله البرد، فإذا أتى الشتاء, قال: إذا أتى الصيف، رحلة الشتاء والصيف، وإذا مسح الدكتور بعض المقررات قالوا: غفر الله لك، ورفع الله ميزانك يا شيخ! أحسنت فينا، فأصبحت المواد محذوفة من أولها إلى آخرها.

وبادره وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعتا

وإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس إنك قد رأستا

فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملتا

الشيخ الألباني كان يطيل في الإجابة علينا, قلنا: لا تطيل، قال: تطيلون في الأسئلة، وتقولون: لا أطيل في الإجابة، مثلي ومثلكم كما قال الأول:

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبَّابة المتندم

هو يحفظ من الشعر العربي الجميل، سبابة المتندم يعضها وليس لها ذنب.

على كل حال ودعناه وذهب في حفظ الله، وسمعت من بعض الأحبة أنه سوف يذهب إلى الدمام ثم الطائف ثم أبها؛ لأنه سوف يبقى فترة هنا، فإذا جاء فسوف تسعدون بالجلوس معه ورؤيته أطال الله عمره على طاعته، حتى يخرج من هذه الكنوز والدرر للأئمة الإسلامية, وأنا مقصودي من هذه اللقاءات هو استطرادات في حال هؤلاء الأعلام لأنها تربية لنا ولكم ولشبابنا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>