للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النهي عن الغلو والتشدد في الدين]

قال زيد بن ثابت: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليالٍ نصلي، وتنحنحنا ليلة لما نام صلى الله عليه وسلم عله أن يسمعنا، فلما أصبح الصباح قال صلى الله عليه وسلم: {إنه لم يخف علي مكانكم البارحة، ولكن خشيت أن تفرض عليكم فلا تستطيعوها} رواه البخاري ومعنى ذلك: عدم التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاكتفاء بما أتى به صلى الله عليه وسلم.

وأهل الحديث والفقه إذا ذكروا باب الاعتصام بالكتاب والسنة أتوا بعده بباب الاقتصاد في العمل، لأن بعض الناس إذا اعتصم بالكتاب والسنة حاول ألا يقصر فزاد؛ فيخرج من السنة، لأن بعض الناس يخرج من السطح، أو يخرج من السقف، فقد تجد بعض الناس يتشدد في تطبيق السنة حتى يخرج من السنة، أو يترك السنة حتى يجفو السنة، والمقصود: هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن المنير الزين شارح البخاري -وهو مغربي-: وقد رأينا ممن تشدد في تطبيق السنة من ترك السنة.

ففي الأخير أودى به تشدده إلى ترك السنة، فتجده على قلامة الظفر، وعلى الشعرة، لا يتغاضى، ولا يعفو، ولا يصفح، ولا يتجاوز، ولا يهادن؛ وفي الأخير تجده يخرج عن السنة، وما أخرج الخوارج من السنة إلا تعمقهم وتنطعهم؛ حتى خرجوا من السنة.

وبعض الناس لا يكتفي بالنوافل، بل يزيد ويرهق نفسه حتى يترك الفرائض، يقول ابن الجوزي كما في تلبيس إبليس عن الصوفية: يقوم أحدهم يصلي الليل كله فإذا اقترب الفجر نام، فنام عن صلاة الفجر، قال: وقد رأيت أحدهم يصلي الفجر في الضحى، فقلت: يا فلان، مالك؟ قال: قمت البارحة أصلي حتى قرب الفجر؛ فنمت عن صلاة الفجر سبحان الله!

ككافلِة الأيتام من كد فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي

صلاة الفجر في جماعة أفضل من قيام ألف ليلة نافلة.

وروى الإمام مالك في الموطأ أن عمر مر بأهل صفوان بن المعطل فقال: [[أين صفوان؟ قالوا: ولمَ؟ قال: ما صلى معنا الفجر.

قالوا: قام البارحة حتى اقترب وقت صلاة الفجر فنام عنها.

قال عمر: لئن أشهد الصلاة مع المسلمين جماعة أحب إلي من أن أقوم الليل كله]] هذا هو الفقه، وهذه هي المعرفة، وهذا هو الانضباط والاقتصاد في العمل لكن بفهم.

وذكر الخطابي في كتاب العزلة قال: مررت بصوفي من غلاتهم وقد ألصق شيئاً على عينه فحجبها.

-أخذ لصقة فحجب عينه- فقلت: مالك؟ قال: إسراف أن أنظر في الدنيا بعينين! والله يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:٨ - ١٠] وهو يقول: إسراف! فانظر إلى الجهل إلى أين بلغ به، ولذلك يمدح ابن الجوزي هؤلاء ويقول: فلان قام أربعين سنة فصلى صلاة الفجر بوضوء العشاء.

أولاً: نسأل ابن الجوزي: من أخبرك أنه قام أربعين سنة؟ هل راقبه أحد ليل نهار أربعين سنة؟ وإن كان هو أخبر الناس فقد راءى بعمله، وإن كانت زوجته أو صديقه فما صدقوا؛ لأنه لا يمكن أن يكون أحد ملصوق به لا يفارقه لا ليلاً ولا نهاراً، ألم يحج؟ ألم يعتمر؟ ألم ينم؟ ألم يسافر؟!

والأمر الثاني: هل هذا موافق للكتاب والسنة أم مخالف؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أما أنا فأقوم وأنام وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني}.

ويأتي ابن الجوزي رحمه الله في صفة الصفوة ويقول: مر فلان بـ عسقلان في فلسطين فرأى رطباً على نخلة، فقال: يا رطب ما أشهاك! وما أحسنك! وما أدناك! والله لا أذوقك حتى ألقى الله، سبحان الله! لماذا ما أكلت الرطب، فرج الله عنك وعنا كل كربة؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل الرطب والخيار واللحم والعسل وهو أفضل الناس، وهل تركك للرطب يجعلك من العشرة المبشرين بالجنة؟!

ويقول عن رجلٍ آخرَ عابدٍ لكنه جاهل، يقول: "الحمد لله، والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت الرطب أربعين سنة فهل هذا فتح بدراً؟! أو رفع اللواء في حنين؟! أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام أكل من هذا.

وهذه التراجم إيرادها إنما هو من باب التشويه لبعض السير ولا تمر هذه إلا بتعليق: هل هي موافقة للكتاب والسنة أم لا؟ لأن بعض الناس أصابهم الفالج، وأصابهم اليبس، حتى ترك بعضهم الطعام -كما يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر - ثلاثين يوماً، قال: فأجبره العلماء على أن يأكل؛ فشرب شربة فوقعت كرش الماء على الحصى فمات سبحان الله! {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:١٩٥].

فلا بد من الاقتصاد ومعرفة السنة في ذلك؛ لأن بعض الناس يتوهم أن السنة معناها: أن تتبذل، وتضرب عن الطعام، وأن تعمل لنفسك أسابيع من التجويع، وتسهر، وتبتعد عن ملاذ الحياة، وأن تصبح كأنك في رهبنة، والرهبنة ليست بواردة، بل قد ذمها الله عز وجل فقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧].

<<  <  ج:
ص:  >  >>