للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[علامة التوبة الصادقة]

ومما ينبغي في التوبة أن يعرف أن الصادق في توبته: هو الذي يحفظ الواحد الأحد، ولكن حفظ الله معناه: أن تؤدي أوامر الله وأن تجتنب نواهيه، وأن تطيع الله ثم تطيع ولاة الأمر في طاعة الله لا في معصية الله عز وجل، ويوم تطيع الله تصدق في التوبة.

قيل لأحد الصالحين: ما علامة التوبة؟ قال: بكاء العين، ووجل القلب، وطاعة الجوارح.

وقيل لآخر: ما علامة التوبة؟ قال: أن ترغب فيما عند الله وتزهد فيما في الدنيا.

وقيل لثالث: ما هي التوبة؟ قال: أن تجعل في ذهنك أول ليلة من ليالي القبر.

وتذكر هذه الليلة يدفعنا إلى التوبة وإلى العودة إلى الله، ويوجد والحمد لله في الساحة عودة عظيمة إلى الله، وقد ذاق الناس طعم الكفر والإعراض والفجور، ثم ذاقوا طعم الإيمان فعادوا إلى الواحد الأحد.

والله يخرج من يشاء من الظلمات إلى النور، ويوم يصدق العبد مع الله عز وجل، ويوم يعود العبد صادقاً مع الواحد الأحد، ولكن المقصد مما يحرك التوبة أن نذكر أول ليلة من ليالي القبر، ومثل لنفسك ليلتين اثنتين: ليلة وأنت مع أطفالك وزوجتك وأهلك في بيتك، وأنت مرتاح الحال وسليم البال، وطيب الضمير، وفي ليلةٍ ثانية تنتقل إلى القبر، ثم تطرح وحيداً.

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القللُ

واستنزلوا بعد عزٍ من معاقلهم إلى مقابرهم يا بئس ما نزلوا

ولا يوسع القبر عليك إلا الإيمان والعمل الصالح، ولا ينوره أبداً إلا طاعة الواحد الأحد، وكما تعرفون جاء في الأحاديث الصحيحة: {القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرةٌ من حفر النار} سافر رجل -وقصته مشهورة وقد ذكرت في بعض الخطب- من أهل الرياض من الصالحين، وعنده زوجة صالحة تربت على القرآن والإيمان، سافرت معه، فأدى مناسك العمرة هو وزوجته، ويقول هو عن نفسه: لما خرجت أنا وزوجتي من البيت لأداء العمرة من الرياض ودعت أطفالها، وكأنها تودعهم الوداع الأخير، وكأن هاجساً هجس في خاطرها أنها لا تعود، وذهبت وأدت المناسك ولكن أولياء الله يحفظهم الله، وهذه ليالي وفراقات تحدث صباح مساء، ينتظر هذا الفراق صباح مساء، إن لم يأتك اليوم أتاك غداً، فلمَّا أدَّنا العمرة، وعادا من الطائف إلى الرياض، وقع لهما حادث في السيارة، ووقعت زوجته في الحادث، ونزل إليها من الباب الآخر فوجدها في سكرات الموت، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي تقول: عفا الله عنك من زوج، نلتقي في الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:٢١] اعلم أنك لن تجتمع بأطفالك ولا بأهلك ولا بأحبابك إلا إذا عملت صالحاً، واعلم أن الوحشة والفراق العظيم يوم ألا تعمل صالحاً، ولا تنجو بنفسك من الخطايا والذنوب.

إخوتي في الله: أول ليلة من ليالي القبر جعلت كثيراً من أهل الإسلام يتوبون ويعودون، وجعلت أهل الغناء واللهو والعبث يعودون إلى الواحد الأحد، أحدهم يقول:

غيرت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون

القبر أول ليلةٍ بالله قل لي ما يكون

واعلم أن أمرك ليس في يدك، وأنك لا تدري ما الله فاعلٌ بك، والأيام ثلاثة: يومٌ مضى وانتهى، الله أعلم ما كتب فيه فعلمه عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى، نسيته أنت ولكن الله ما نسيه وهو أمامك بالمرصاد، وقالوا: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] ويومٌ أنا وأنت نعيش فيه؛ فسدد وأصلح فيه، ويومٌ لم يأت وهو يوم غد فما عليك منه.

سهرت أعينٌ ونامت عيون في شئون تكون أو لا تكون

إن رباً كفاك ما كان في الأمس سيكفيك في غدٍ ما يكون

وأنبه على قضايا ينبغي أن يتاب منها، وكل خطيئة واجبٌ عليك أن تتوب منها وجوباً حتمياً {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].

<<  <  ج:
ص:  >  >>