يصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ويصعد يوم الجمعة يخطب، والسماء صافية والشمس لامعة ترسل أشعتها كالنار من شدة الحر، لا ربيع لا غمام، ثم يأتي أعرابي من نحو باب القضاء، والناس في قحط لا يعلمه إلا الله، قال أنس:{والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة، فيقول الأعرابي: يا رسول الله! -يقطع الخطبة عليه- ضاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع يديه وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال أنس والله ما نزل من على المنبر وما هي إلا لحظات، حتى ثارت من على سلع غمامة كالترس حتى احتدمت في سماء المدينة فوق المسجد ثم ثارت كالجبال}{}[يس:٨٢] فثارت حتى سدت المدينة وأظلمت، فبرق البارق ورعد الرعد، وأمطرت السماء حتى سال الماء على وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالماء يخر على جبينه الطاهر، فيكمل خطبته ويتبسم ويصلي ويقول: أشهد أني رسول الله، ونقول له: نشهد أنك رسول الله، ونشهد أنك صادق، ونشهد أنك ناصح، ونشهد أنك أتيت تنقذ العالم، ونشهد أن الذي لا يتبعك في ضلال مبين.
ويصعد بعد جمعة والسماء لا زالت تهدر بالماء، والأرض تسيل، ويأتي ذاك الأعرابي أو غيره في الجمعة المقبلة والرسول صلى الله عليه وسلم يواصل في خطبة أخرى في موضوع آخر، وكانت خطبته تسكب الإيمان، كأنه يجري بكوب من الماء في قلوب الموحدين أو كأنه يغرس شجراً:
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
ففي أثناء خطبته يرفع الأعرابي صوته يا رسول الله! فيتوقف صلى الله عليه وسلم، ويسكت المسجد، ثم يتجهون بأبصارهم إلى الأعرابي وهو يقول: يا رسول الله! جاع العيال وضاع المال - من شدة المطر- وتقطعت السبل، فادع الله أن يرفع عنا الغيث، فيتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل اللهم ارفع الغيث؛ لأنها ليست من الحكمة وهذا رحمة من الله، قال:{اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر}.
قال العلماء من الصحابة: والله ما يشير إلى جهة إلا وينصب المطر في تلك الجهة، يقول بيده كذا، اللهم حوالينا فنتيجة المطر إلى حيث أشار النبي صلى الله عليه وسلم فيخرجون من المدينة والمدينة كأنها في مثل الجوبة، تصل الشمس في المدينة ولكن ما حولها غيث وصيب نافع، ومطر غزير لكن المدينة شمس، فيخرج من المسجد ويقول: أشهد أني رسول الله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:١٥].