للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[فتنة يوسف مع امرأة العزيز وأقوال المفسرين فيها]

بيع عليه السلام ومكث في قصر العزيز تقياً عابداً متعلقاً بالحي القيوم، وتمر الأيام ويزداد حسناً إلى حسنه، وجمالاً إلى جماله، فتراوده امرأة العزيز، فيا للفتنة العظيمة! وياللمحنة اللئيمة! شاب أعزب غريب، شاب فيه هيجان الشهوة، ليس له أهل يعود إليهم، وغريبٌ لا يخشى على نفسه من السمعة القبيحة كما يخشى صاحب الوطن {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:٢٣] تعرضت له كثيرا ًوتجملت له دائماً، وهي ذات منصب وذات جمال، ملكة في قصر ملك، ولكن الله معه يحفظه ويسدده، وفي يوم من الأيام غلقت الأبواب وكانت سبعة، وقال: غلقت، ولم يقل: أغلقت، زيادة في المبنى والمعنى، وغلقت للتكثير والتأبيد، غلقت الأبواب وخَلَت هي وإياه، ولكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يراهما {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:٢١٨ - ٢١٩] الذي يسمع ويرى، تجملت وتزينت وخطرت وهمت به وهم بها، خليا بالمعصية لكن ما خليا عن عين الله:

وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يران

يا من سترت مثالبي ومعايبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني

والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني

وقف عليه السلام وحيداً وهم بها، أصابه شيء من النقص البشري، وألمت به الفاحشة ولما يفعل، هاجت الشهوة في قلبه عليه السلام، {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:٢٤] فما هو برهان ربه يا ترى؟

اسمعوا إلى أقوال المفسرين أعرضها عليكم ثم نخرج بالصحيح الراجح إن شاء الله، قال: ابن عباس رضي الله عنهما: [[لما هَمَّ يوسف بها سمع هاتفاً يهتف يقول: يا يوسف! إنني كتبتك في ديوان الأنبياء فلا تفعل فعل السفهاء]] وقال السدي: سمع هاتفاً يهتف ويقول: يا يوسف! اتق الله إنك كالطائر الذي يزينه ريشه فإذا فعلت الفاحشة نتفت ريشك.

وقال بعض المفسرين كما أورد ذلك ابن جرير الطبري: رأى لوحة في القصر مكتوب عليها {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢] وقال غيرهم: رأى كفاً مكتوباً عليه (إن عليكم لحافظين) إننا نحفظ تصرفاتكم وحركاتكم وسكناتكم، إننا نراكم، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [[لما هم يوسف عليه السلام رأى أباه يعقوب في طرف الدار قد عض على أصبعه ويقول: يا يوسف اتق الله]] وهذه الروايات أوردها ابن جرير وابن كثير.

وقال بعض أهل العلم من المفسرين أيضاً: فلما همَّت به وهمَّ بها قالت: انتظر! قال: ماذا؟

فقامت إلى صنم في طرف البيت فسترته بجلباب على وجهه، صنم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يأكل ولا يشرب، قال: مالك، قالت: هذا إلهي أستحي أن يراني، فدمعت عينا يوسف، قال: أتستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأنا لا أستحي من الله الذي بيده مقاليد الأمور!

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم أن برهان ربه الذي رآه واعظ الله في قلب كل مؤمن، والحياء من الله والخجل من الله، فارتد عن المعصية، وعاد منيباً إلى الله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٤٠ - ٤١] تذكر الوقوف بين يدي الله يوم يحشرهم حفاة عراة غرلاً بهما، فبرهان ربه: واعظ الله في قلبه، يعظه بالتوحيد، ويناديه بالتقوى.

فهل آن لشباب الإسلام أن يتحرك واعظ الله في قلوبهم؟! وهل آن للمسلمين أن يجعلوا من يوسف عليه السلام قدوة لهم؟

فيا من يتطلع على عورات المسلمين! أليس لك في يوسف عليه السلام قدوة؟!

ويا من يعامل ربه بالمعاصي ويرتكب الجرائم ويحرص على الزنا! أما رأيت يوسف عليه السلام قد خلا بامرأة جميلة ذات منصب فتذكر واعظ الله في قلبه؟!

ويا من يدعو إلى تبرج المرأة وإلى الاختلاط! أرأيت ما تفعل الخلطة والتبرج؟!

يوسف نبي معصوم كاد أن يزل وأن يهلك!! وأنت تنادي المرأة بأن تتبرج وتسفر عن وجهها!! فأين الواعظ، وأين التقوى، وأين مراقبة الله؟!

يقول عليه الصلاة والسلام: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، يقول عليه الصلاة والسلام {لا تتبعوا النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية}.

فيا شباب الإسلام! أما رأيتم ماذا فعل يوسف؟

ثم قال الله له: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤] لنعمر مستقبله باليقين، لنجعله من ورثة جنة رب العالمين، مع المؤمنين الخالدين، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤] فإذا أخلص العبد لله، حماه الله من المحن وجنبه الشرور.

يقول سعيد بن المسيب رحمه الله: [[إن الناس تحت كنف الله وظله إذا أراد أن يفضح بعضهم رفع ستره تعالى عنهم]].

فيا شباب الإسلام! ويا معاشر المسلمين! انظروا إلى هذا التقي النقي الورع، انظروا إلى من راقب الله فأسعده الله، ونجاه الله وحفظه.

يا واهب الآمال أنت منعتني وحفظتني

وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني

فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>