الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، كانت أعيننا عمياً ففتحها بإذن الله، وكانت رءوسنا مخفوضة فرفعها بعون الله:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبتِ الكنوزَ فكسَّرت أغلالها
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإنها سعادة لي أن ألتقي بهذه الوجوه الباسمة الغانمة في هذا النادي، الذي أتى القائمون عليه ليثبتوا للناس أننا أمة العلم، يوم كانت الجاهلية تُخيِّم على الأذهان، وأننا أمة الفكر يوم سيطرت الهلوسة والهوج على عقول الناس.
وأننا أمة العلم والجمال والفن العفيف المسير بطاعة الله على نور من لا إله إلا الله، يوم عرف الناس أن الفن والجمال بالمعصية والصد عن سبيل الله، فنحن أمة علم، وأمة أدب نثراً وشعراً، ندل به على الله، ونسير به إلى الله، نحتسب بالبيت الشعري ما نحتسبه بالكلمة، ونحتسب في البيت الشعري ما نحتسبه بالتسبيحة التي يسبحها العابد في المسجد؛ لأن الله أرسل رسل هداية، كما يقول ربعي بن عامر يوم أن دخل على رستم فهز إيوانه، فقال له رستم: ماذا جاء بكم؟ قال ربعي:[[جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم أتى لنا -نحن أمة العرب- قبل الأمم الأخرى: ماذا كان مجدنا؟ وماذا كان تاريخنا؟ وما هي ثقافتنا؟ وما هي معرفتنا؟ لا شيء قال الله:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الجمعة:٢] فأخرج أعراباً كان أحدهم يطارد الضبع، ولا يدري ما تاريخه، ولا ما مصيره! ولا لماذا خلقه الله! فوضأهم بماء التوبة، وأسمعهم أذان بلال، وأسجدهم لله على الصحراء، ونفض كل ذرة من ذرات الشرك من قلوبهم؛ فانطلقوا يهللون ويكبرون، أخذوا سيف الله تحت لا إله إلا الله، وساروا على أمواج بحر الله يُعلون لا إلا الله في المعمورة، فمات بعض الصحابة في طاشقند، ومات بعضهم في نهاوند، على أبواب القسطنطينية، وماتوا على مشارف أسبانيا، وفي رُبَى نهر الجانج، حتى قيل لـ عمر حين قال: مَن الذي قُتل في نهاوند؟ قال الأحنف: قتل فلان وفلان وفلان، وأناس لا نعرفهم، فدمعت عينا عمر وقال:[[لكن الله يعرفهم]] الله يعرف الذين قتلوا من أجله وبسببه لينشروا راية لا إله إلا الله، يعرفهم يوم يجمع الأولين والآخرين.