بيان معنى (الْخَنَّاسِ)
{الْخَنَّاسِ} [الناس:٤]: ووُصِِفَ الشيطان بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء.
ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:١٥] والخُنَّس: النجوم؛ لاختفائها بعد ظهورها، وهي تختفي في أبراجها.
وسميت الظباء خوانس؛ لأنها تخنس في الأرض وتختفي.
وسميت الشاعرة الخنساء بـ الخنساء؛ لأنها جميلة كالظبي.
فكل شيء يختفي يقال فيه: خَنَسَ، أي: اختفى، والشيطان اختفى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:٢٧].
قال أحد التابعين لما قرأ هذه الآية: [[الله المستعان، كيف بعدُوٍ يراك ولا تراه؟!]] بمعنى أنه: ينتصر عليك، تصوَّر أن عدواً يريد أن يصيدك، ومعه سلاحه وعياراته، وهو يريد أن يقتلك، وأنت تريد أن تهرب منه، وهو يراك وأنت لا تره، سوف يصيدك ولو مرة.
والمشكلة التي أوقعت كثيراً من الناس في حبائل الشيطان هو أنه يراهم وهم لا يرونه، وهذه فتنة من الله عز وجل يقول الشاعر:
تسترتُ من دهري بظل جناحه فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني ما درتْ وأين مكاني؟ ما عرفن مكاني!
وهذا مثل الشيطان الرجيم، فهو خناس، والعجيب: أنه يسكن في القلب، وأنه جاثم على قلب الإنسان، وهو - عند بعض أهل العلم- كـ (الضفدع) ووصفه بعضهم وقال: كـ (السلحفاة) ووصفه بعضهم بقوله: كـ (الحية الرقطاء) وما شئت من الأوصاف، إنما يجري في الإنسان مجرى الدم، كما قال عليه الصلاة والسلام.
وكلٌ معه قرين -شيطان- خلق معه مصاحباً له يغالبه، فالشيطان يدعوه للفاحشة، ويَعِدُه الفقر، والمسلم بنفسه وواعظ الله في قلبه يدعوه إلى الإيمان والغنى والتصديق بوعود الله، فأيهما غلبَ فهو الغالب، والحرب سجال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:١٢٨].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في: صحيح مسلم: {ما منكم من أحد إلا وُكِلَ به قرينُه من الجن فهو معه، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، لكن الله أعانني عليه فَأَسْلَمَ} وضُبِطَتْ كلمةُ: (فأسلم) عند بعض العلماء بمعنى: {فَأَسْلَمُ} أي: فَأَسْلَمُ منه، أي: أعانني الله عليه فغلبتُه، فأنا سالِمٌ منه، وهذا رأي ضعيف، والضبط الأول: {فَأَسْلَمَ} من الإسلام، أي: اعتنق الإسلام هو الصحيح، فلا يأمره إلا بخير.
وفي الحديث: {إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس} أي: تأخر وأقْصَرَ.
وقال قتادة بن دعامة السدوسي، وهذا فيه ملعقتان من القدر، وهو من رواة البخاري ومسلم؛ لكن فيه ملعقتان قدر، قال عنه الذهبي: رأس في القراءات رأس في الزهد رأس في الحديث، هذا وفيه بدعة القدر، ولا نبطله، ولا نرد علمه؛ لكن نقبله وننبه على خطئه في القدر، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
وهذا الكلام هو الإنصاف، وهو العدل.
يقول قتادة، وهو من سادات المفسرين: [[الخناس: الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب، في صدر الإنسان]].
فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبدُ ربه خنس، يقال: خَنَسْتُه، فَخَنَسَ، أي: أخَّرْتُه فتَأخَّرَ، وأخْنَسْتُه أيضاً، ومنه قول العلاء الحضرمي، وقد أنشد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
وإن دحسوا بالشر فاعفُ تكرماً وإن خنسوا عند الحديث فلا تسلْ
وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي التقم قلبه فوسوس} والحديث ضعيف، وإنما ذكرتُه؛ لأن كثيراً من المفسرين ذكروه، كـ القرطبي وغيره من أهل العلم، فذكرتُه لأبين أنه ضعيف.
وقال ابن عباس: [[إذا ذكر الله العبد خنس الشيطان من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومنَّاه]].
وقال إبراهيم التيمي: [[أول ما يبدأ الوسواس من قِبَل الوضوء]].
وقيل: سمي خناساً؛ لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله، والخَنَس: الرجوع.
هذا عرض موجز لكلام السلف، ثم أعود إلى كلام أهل العلم مفصلاً في قضايا السورة.