[ابتلاء محمد صلى الله عليه وسلم]
أما رسولنا عليه الصلاة والسلام فعاش مع ريبةٍ وشائعةٍ استهلكت شهراً من حياته كما يقول سيد قطب رحمه الله: "شهراً كاملاً وقف على أعصابه" ماذا حدث؟ أتى المغرضون، وخصماء الإسلام، وأذناب اليهود، فقالوا: عائشة زنت، لا والله والله لا تزني وهي الصادقة بنت الصادق، والمبرأة من فوق سبع سماوات، ولكن هكذا يُلطخ الحق، ولكن مهما قالوا فالعاقبة للمتقين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:٥١] {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٧ - ١٢٨].
أتى الخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم تكتحل عينه بنوم ولكن يوم يعرف المسلم أن أمامه جيلاً وتاريخاً من الأنبياء والرسل والدعاة والصالحين ابتلوا، وصبروا، وعلموا أنه لابد من هذه المرحلة مرحلة الابتلاء.
يقول الشافعي رحمه الله لـ مالك: "أيبتلى العبد أم يُمكَّن" أي: هل يُمكَّن في الإمامة في الدين أم يبتلى؟ قال: "لا يُمكّن حتى يبتلى" {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤] الرسول عليه الصلاة السلام أصيب في أعز شيء في حياته، المال يسهل، وكل شيء يهون سواء كان البيت أو الأطفال أو الزوجة، أو المنصب أو الوظيفة، إلا العرض والدعوة والرسالة.
إن أعداء الإسلام يريدون أن يُفقدوا هذا الصوت وهذه الكلمة وهذه الرسالة ثقتها؛ فإذا فقد الإنسان ثقته، ولُطخت سمعته، وفُضحت كلمته، فمن يثق به ومن يصدقه، ومن يستمع إليه ومن يسمع كلامه، ومن يستفيد منه؟
أصيب عليه الصلاة والسلام في أعز شيء عنده وهي امرأته، قال المنافقون والمغرضون والحاقدون: امرأته زانية، ياألله وهل تزني الحصان الرزان؟ ياألله وهل تزني الصديقة بنت الصديق؟! وتعطل عليه الصلاة والسلام، وقف ليخطب فإذا العيون تنظر إليه؛ لأن الشيطان أوحى إلى بعض الناس بالخبر، يتكلم إلى الناس، وإذا عرضه قد فضح أمام الناس، فمن يعيد عرضه؟!
بل يسهر الليل:
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
فانتظر عليه الصلاة والسلام أن يأتيه خبر من السماء، لعل جبريل -عليه السلام- أن ينزل بآيات، لكن انقطع الوحي شهراً كاملاً ثم أنزل الله تعالى هذه الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:١١ - ١٢] لكن كثيراً من الناس لم يقل هذا الكلام.
إن الشائعة إذا ظهرت في الناس من يقنع الناس، ويقول للناس: إنها خطأ، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {كيف وقد قيل}.
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فعاشها شهراً كاملاً، لأنه أصبر الصابرين، وأصدق الصادقين، وأخلص المخلصين، ولكن أراد الله أن يرفع منزلته أكثر وأكثر، ويجعل منهجه باقياً، وأن يعلم تلاميذه وأتباعه وحُفاظ رسالته أن هذا هو الطريق، ففيه تقديم الرءوس، وتقديم الدماء والأموال {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:١١١] وحملها عليه الصلاة والسلام، وسمعت عائشة بالخبر رضي الله عنها قالت: فما رقى لي دمع شهراً كاملاً؛ ويدخل عليها صلى الله عليه وسلم ويقول لها: يا عائشة! إن كنت قد ألممت بذنبٍ؛ فتوبي إلى الله، وإن كنت بريئةً، فسوف يبرئك الله، فقالت لأبيها: رد، فوقف أبو بكر حائراً يبكي ماذا يقول؟! إنها معضلة أودت بسرور وبسعادة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال: والله لا أجد ما أقول، ثم قالت لأمها: ردي، قالت: والله لا أدري ما أقول، فقامت هي لتقول: والله ما أجد لي كلاماً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨]}.
الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه؛ الصبر الجميل الذي يصلك برضوان الله، والحياة والابتلاء تمحيص ليخرج الرجال، وليعلمهم أن دعوتهم ينبغي أن تكون لله، وأن النصر من عند الله، وأنه لا يزكيهم إلا الله، وأنه لا ينبغي أن ينصرفوا بدعوتهم رياءً ولا سمعةً ولا شهرةً ولا ظهوراً، وجلس عليه الصلاة والسلام وإذا بالوحي ينزل، وإذا بالبراءة تنزل من السماء، بَّرأها الله من فوق سبع سماوات، وكذب المنافقين والحاقدين، وكذب عملاء الخيانة واليهود، وأشياع المنافقين في كل زمن.
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:١٨].