[صور من زهد السلف في الدنيا]
ويقول سبحانه: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:٢] لها سببان:
قيل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:١]: تكاثركم في الأموال والأولاد، حتى ذهبتهم إلى زيارة المقابر، لكن ليس ككل الزيارات يقول الشاعر ابن عثيمين، شاعر الملك عبد العزيز رحمه الله، شاعر مفلق، رثى أحد العلماء يقول في قصيدة تسمى المبكية عند أهل العلم، يقول:
هو الموت ما منه ملاذ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نؤمل آمالاً ونرجوا نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقربُ
ونبني الزهور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنَّا نموت وتخربُ
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظُ الموتِ يندبُ
هذا الموت عجيب، فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب فرحاً، وهو الذي كسر ظهور الأكاسرة، وقصر آمال القياصرة الذين بغوا وطغوا، فأرداهم ظلمهم في الحافرة.
يقول أحدهم لما دخل على الخليفة المأمون، فرأى الهيلمان، ورأى الذهب والفضة، قال للمأمون:
باتوا قلل الجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من منازلهم إلى مقابرهم يا بئسما نزلوا
ويذكر الذهبي وابن كثير: أن أبا العتاهية دخل على هارون الرشيد، وقد بنى هارون الرشيد قصراً في الرقة -قصراً جميلاً بديعاً- فنظر إليه أبو العتاهية، فقال هارون الرشيد أمير المؤمنين: " ما رأيك يا أبا العتاهية؟ قال: شيء جميل، قال: أقلتَ فيه شعراً؟ قال: نعم.
قال: ماذا قلتَ؟ قال: قلت:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصورِ
قال: هيه، أي: زِدْ، قال:
يجري عليك بما أردت مع الرواح وفي البكورِ
قال: هيه، قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدورِ
فهناك تعلم مُوْقِناً ما كنت إلا في غرورِ
فبكى حتى أغمي عليه.
والقصة عند الذهبي وابن كثير.
والمقصود من هذا: أن هذه أمور مُسَلَّمات بها عند جمهور الناس، لكن تحقيقها في الواقع صعب، ولا ينقص الناس تحسين العلوم في الأذهان، لكن ينقصهم تطبيقها في الأعيان وفي الحياة، وهذا الذي ينقصنا، كيف نتعامل مع الرسالة التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام؟ أوتي إليه بكنوز الدنيا فقال: لا.
قدم له ملك الدنيا، فقال: لا.
ولذلك قال - فيما صح عنه -: {إنما مثلي ومثل الدنيا كرجل قال في ظل شجرة، ثم قام وتركها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
هذه حقيقة الدنيا أنها قصيرة لاهية، تنتهي؛ لكن لا يعرف ذلك إلا المؤمنون.