[الموازنة بين العلم التعليم الدعوة كآفة الحقوق]
إنه ينبغي عدم إرهاق النفس وتكليفها ما لا تطيق حتى تفرط في بعض الواجبات؛ فمثلاً الدعوة إلى الله عز وجل من أحسن الأعمال، وليس معنى الدعوة أن تترك بر الوالدين، وصلة الرحم وحقوق نفسك وأهلك وزوجتك.
بعض الدعاة الذين لهم أهل وأطفال تتصل زوجته وتشكو أنها لا تراه ليلاً ولا نهاراً، وكلما سألته أن يقف معها يقول: أنا مشغول بالدعوة، فما هي هذه الدعوة؟
وإلى متى تظل هذه الدعوة؟
وما هي النتائج؟ كان أكثر الناس شغلاً بالدعوة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكبر من كان له أثر في الدعوة محمد عليه الصلاة والسلام، والذي أصلح أكثر البشر هو محمد صلى الله عليه وسلم، مع ذلك كان له تسع نساء، وكان يلاعب الأطفال، وينام في وقت النوم، ويصحو في وقت اليقظة، ويمازح الصحابة، ويستقبل الضيف، ويجاهد ويفتي، وهذا هو التكامل في الحياة.
ومن كان كل يومه دعوة، فليرنا الناس الذين استجابوا لدعوته، وهل قد استجاب له الشرق الأوسط كلهم أم أنه منشغل بشابين أو ثلاثة منذ عهد السلطان عبد الحميد، وكلما قلت له: يا أخي لماذا لا توازن في حياتك، فتجلس مع والديك، يقول: تربية الشباب، فإذا قلت له: كم معك من الشباب؟ قال: عندي اثنان والحمد الله! وأنا لا أسخر، فإن نوحاً عليه السلام استجاب له رجل، وبعض الأنبياء لم يستجب لهم أحد، ولست عليهم بمسيطر، ولست مكلفاً بإصلاح الكرة الأرضية ولا حتى أهل أبها، وإنما عليك البلاغ بقدر جهدك واستطاعتك مع مراعاة التوازن في الحياة حتى لا يطغى جانب على جانب.
وقد سمعت بعض الشباب يقول: أنا لا أتزوج، قلت له: لماذا؟ قال: تزوجت الدعوة
الله الله!! وهل الدعوة تتزوج، زواج الدعوة حرام، ولا يجوز الخلوة بها إلا مع ذي محرم، وبعضهم إذا قلت له: مالك يا أخي ما تزوجت وقد بلغ عمرك أربعة وعشرين قال: تزوجت أفغانستان، الله أكبر! فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّة} [الرعد:٣٨].
قال الإمام أحمد لبعض تلاميذه: لماذا لا تتزوج؟ قال: إبراهيم بن أدهم مات ولم يتزوج -انظر كيف قفز إلى إبراهيم مباشرة، وخلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكره- فقال له الإمام أحمد: أُوَّه والله يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّة} [الرعد:٣٨].
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم ومعجم الطبراني، ومسند أحمد: {كان صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها} بينما بعضهم يقول ما هؤلاء الأطفال؟ يشغلونا عن الدعوة والجهاد!!
فلابد أن تتزوج، ولابد أن تعبد، ولا بد أن تدعو، ولا بد أن تجاهد، هذه هي وسطية هذه الأمة.
وطلب العلم الآن بين إفراط وتفريط، إما طالب علم أغلق عليه بيته فلا يرى الشمس في الشهر إلا مرة، فهو دائماً في الحواشي، وهو مأجور على كل حال؛ لكن ماهي ثمرة العلم؟ هل أثر في أحد؟ يمكن أن يموت ولم ينفع أحداً، فإذا قيل له: شارك الناس في الدعوة ولو يسيراً، قال: لا طلب العلم فريضة، قلت: يا أخي! هؤلاء فيهم خير، قال: هؤلاء يضيعون الأوقات، ثم يموت فيموت علمه معه:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فالمقصود من العلم النفع المتعدي، ولذلك كان أحسن من النافلة، لأنك تنفع به الناس:
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردت
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيفُ الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
أنا جربت في نفسي إذا وقف الإنسان عن المحاضرات والدروس شهراً نسي الآية التي كان يستشهد بها.
أحد الدعاة وقف عن الدعوة أربعة سنوات، قال: نسيت القرآن ونسيت الأحاديث، ونسيت المواعظ التي كنت أقولها، قال: وجربوني مرة في مجلس فتكلمت خمس دقائق ثم حممت ثم توقفت، ولذلك تجد الذي لا يدعو ولو كان عالماً كبيراً في السبعين من عمره فإنه لا يستطيع أن يتكلم، يقول: (الحمد الله) ثم يقف ربع ساعة (والصلاة والسلام على رسول الله) ثم يتوقف، لأنه ما عاش تبليغ هذا الدين للناس.
ومن الناس وهو الطرف الآخر من ترك العلم ظهرياً، وقال: المقصود الدعوة، فنقول: يا أخي! احفظ مختصر مسلم للمنذري، قال: لا إذا حفظنا مختصر مسلم فقد زادت نسخة في البلد، عجيب! كيف زادت نسخة في البلد؟! قال: إنَّ حفظ هذه المتون تربك الدعوة إلى الله عز وجل ونحن دعاة لا علماء.
وهذا خطأ، بل زاد عالم من علماء المسلمين وهذه الأسماء اللامعة: ابن حجر، ابن تيمية، ابن القيم، ابن رجب، أبو إسماعيل الهروي، وأمثالهم يحفظون المتون.
فما هو التوازن؟
هو التحصيل في وقت يكون منضبطاً لا يطغى على الحقوق والواجبات، فلابد من وقت لأهلك تجلس معهم ووقت لوالديك تقضي فيه حوائجهم وتجلس معهم، وتزورهم وتسمع كلامهم ويسمعون كلامك؛ هذا في الأربع وعشرين ساعة.
واعلموا أن المشكلة ليست من قلة الوقت ولكن من عدم ترتيب الوقت، الآن تقول لأحد الشباب: لماذا يا أخي لا تحفظ القرآن؟ قال: يا أخي! والله ما وجدت وقتاً، هذا خطأ، لأنني أعرف من المخالطة أن البعض يجلسون من بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب على إبريق من الشاي، يأخذون أخبار البلد، من طلق من النساء، وبمن تزوج ومن مات، وهذا الوقت يحفظ بعض الحفاظ فيه ثلاثين حديثاً، وكان الإمام الدارقطني يحفظ في الجلسة ثلاثين حديثاً، بينما هذا الشاب يقول: يا أخي! والله ما وجدت وقتاً لمراجعة القرآن.
والبعض إذا قيل له: لماذا لا تراجع القرآن؟ قال: انشغلنا بالدعوة عن القرآن، وهل الصحابة ما حفظوا القرآن لأنهم انشغلوا بالدعوة، وكلمة الدعوة أصبحت كلمة (مطاطية) أصبحت مظلة يتظلل بها كل أحد، حتى من أراد أن يفر من والديه ويترك البيت قال: لا.
يا والدي لا تكن حجر عثرة في طريق الدعوة، يا والدي! اتقِ الله، دعني داعية أصلح هذه الأمة، هذه حفظكم الله الحقوق العامة.