للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قول الصحابة للأدب والشعر]

ضكان عليه الصلاة والسلام يعلم الصحابة أن يقولوا الشعر والأدب -لأننا في ناد للأدب والشعر والثقافة- فكانوا يرتجزون، ليسوا كمثلنا على الكراسي الآن، نقول القصائد العصماء، ونقول القصائد التي نكسر بها رءوس اليهود لكن في الواقع ما كسرنا رأس أحد، أما هم فإن عبد الله بن رواحة يقول - وهو يحمل الراية في مؤتة، وهو يحمل سيفه وقد كسر غمد سيفه على ركبته - يقول: والله لا أعود إلى الدنيا، ثم يقول:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

لتنزلن أو لتكرهنه

إن أقبل الناس وشدوا الرنة

مالي أراك تكرهين الجنة

هل أنت إلا نطفة في شنة

فهو يحلف على نفسه أن تنزل إلى المعركة.

فنزل مع الغروب، وأدركته الراية، لأنه هو القائد الثالث من القواد الذين عيَّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة آلاف في مقابل مائتي ألف، فلما أتى الغروب قال للناس: إني صائم ولا أستطيع المقاتلة، فناولوني شيئاً آكله، فناولوه عرق لحم، فأخذ منه قطعة - لقمة - فأراد أن يستسيغها وأن يبتلعها فما استطاع - فهو يسمع مع الغروب تحطيم السيوف، ويسمع الرماح وهي تتكسر على رءوس الأبطال، ومعه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - قال: والله لا آكل من هذا ولا آكل إلا في الجنة - إن شاء الله - ثم رمى بالعرق من يده، ثم أقبل وهو يقول:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

لتنزلن أو لتكرهنه

إن أقبل الناس وشدوا الرنة

مالي أراك تكرهين الجنة

هل أنت إلا نطفة في شنة

يقول: أما تسمعين حَطَمَة السيوف؟ من يكره الجنة؟!

الذي يبقى في الحياة، ويحب أن يحيا بلا طاعة ولا عبادة، ولا اتصال بالله يكره الجنة.

وقبله أتى الشاب جعفر رضي الله عنه وأرضاه، فأتى يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها

إي والله، أمَّا الدنيا فليست بطيبة، لأنك إذا شبعتَ في الدنيا تنغصتَ بذلك، وإذا سررت وفرحت بأبنائك نغص عليك الموت هذه الفرحة، وإذا اجتمع أهلك فرقهم هاذم اللذات، وإذا صحَّ جسمك أتاه الهرم والأمراض والتعاسة، وإذا رأيت ببصرك، وأمعنت النظر، أتاك العمى والعمش، وإذا سمعت الصوت الجميل بأذنَيك، فهي مرحلة ويصيبك بعدها الصمم أو تموت، فهي دنيا منغصة، يقول الحسن البصري: [[ابتغوا لأنفسكم داراً غير هذه الدار، فإن الموت قد فضح هذه الدار]].

حتى يقول عبد الملك بن مروان لما حضرته الوفاة -كما ذكر عنه الذهبي في المجلد الرابع من سير أعلام النبلاء - يقول: [[أنزلوني من على عرش الملك وسريره، فأنزلوه، فأخذ يمرغ وجهه في التراب ويبكي، ويقول: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه، وسمع وهو في سكرات الموت غسالاً ينشد، فقال: يا ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت غسالاً! يا ليتني ما توليت أمر الأمة!]] قال سعيد بن المسيب: [[الحمد الذي جعلهم يفرون عند الموت إلينا، ولا نفر إليهم]] ولذلك يقول علي فيما حُفِظ عنه رضي الله عنه وأرضاه وهو يبكي على منبر الكوفة يوم الجمعة:

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها

فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدار نبنيها

أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

فاعمل لدار غداً رضوانُ خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها

قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها

فلذلك كان من المهم عند المسلم أن يعمل لتلك الدار.

والشاهد من هذه القصة، أن العمل والاتجاه إنما يكون لدار البقاء لا لدار الفناء.

التي لا بقاء فيها، فهي دار ذاهبة مرتحلة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>