للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كلا لو تعلمون علم اليقين]

{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:٢ - ٣] سوف تعلمون غداً يوم العرض الأكبر.

{ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:٤] وهذا تأكيد بالتثبيت والإرادة بعد المبادئ، والتفريع بعد التفصيل، وهو منهج استقرائي لأهل التفسير، بل لأهل اللغة العربية قبل أن يكون لأهل التفسير يوم تؤكد الكلام.

{الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:١ - ٣] {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:١ - ٢] هذا التأكيد يقرع القلوب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ لكن الذي ليس له قلب لا يفهم، والذي ليس له فكر لا يتفكر، والذي ليس له إرادة أو فسدت إرادته لا يعي ولا يفهم أبدا.

ً

- مراتب اليقين:-

{َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:٣ - ٥] كيف علم اليقين؟

في القرآن حق اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين؛ فما هو الفرق بين عين اليقين وحق اليقين وعلم اليقين؟

يقول ابن القيم في مدارج السالكين: علم اليقين: هو أن تسمع بالشيء ولا تراه فهذا علم، ولكنك إذا تيقنت منه فهذا علم اليقين؛ فإذا علمت بشيء فتيقنت منه كان لديك علم اليقين.

وحق اليقين: هو أن يخبرك الثقاة بأمور تواترية تبلغ درجة حد التواتر، فتتيقن دوماً أن هذا الأمر صحيح، فيكون عندك درجة حق اليقين.

وعين اليقين: هو أن ترى الشيء بنفسك.

ثم ضرب على ذلك مثالاً؛ فقال: تسمع من الناس أن العسل لذيذ الطعم، وأنه طيب المساغ، وأنه سلس المذاق، فيكون عندك جزم من استقراء كلام الناس عن العسل أنه طيب فهذا علم اليقين، يخبرك أطباء ومدربون وأناسٌ كثيرون أن العسل من أحسن المطعومات فيكون عندك حق اليقين.

تأتي فتذوق العسل فيصبح عندك عين اليقين.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:٤ - ٥] لو كان عندكم في الدنيا علم يقين يصل إلى القلوب ما فعلتم هذه الأفاعل، بالله هل يترك الصلاة من عنده علم يقين؟

بالله! هل يستهزئ بآيات الله ويستهتر بالمبادئ الخالدة في الدين من عنده علم يقين؟!

بالله هل يقضي وقته باللعب واللهو والغناء والمجون والسفور من عنده علم يقين؟!

بالله هل يخل بفرائض الله من عنده علم يقين؟!

لم تقع هذه الأمور إلا يوم نقض علم اليقين، ومات علم اليقين في القلوب، فلو وصل علم اليقين إلى القلوب، لكنّا وصلنا إلى الله عز وجل.

ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل

أيها اللاهي بلا أدنى وجلْ

اتق الله الذي عز وجل

واستمع قولاً به ضرب المثل

اعتزل ذكر الأغاني والغزل

وقل الفصل وجانب من هزل

- الوصول إلى اليقين عند غلاة الصوفية:

الوصول هو التقوى، وهو علم اليقين، إذا وصل إلى القلب وصلت إلى الله عز وجل، إذا عرفت الله عز وجل، وعملت بأوامر الله، فقد وصلت، لا كوصول الصوفية، فعند غلاة الصوفية إذا وصلوا إلى درجة اليقين بزعمهم لا يصلون ولا يصومون ولا يحجون، قيل لهم: مالكم؟

قالوا: نحن نتعبد حتى نصل إلى درجة؛ فإذا وصلنا إلى درجة أسقط الله عنّا التكاليف، فالصلاة معناها: صلة مشايخنا، قلنا: والصيام؟

قالوا: الصيام حفظ أسرارنا.

قلنا: والحج؟ قالوا: زيارة أحبابنا.

قيل لـ أبي علي الروذباري: يقول الصوفية الذين تركوا الفرائض: أنهم وصلوا.

قال: صدقوا، وصلوا لكن إلى سقر، إلى جهنم.

ما كل من وصل وصل، ولا تصل أنت إلا على طريقٍ قائده محمد عليه الصلاة والسلام، وزادك فيه القرآن -كما سلف التنويه بهذه العبارات في أول المحاضرة-.

{ثُمّ َكَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:٣ - ٦]-نعوذ بالله من الجحيم- وهنا أسلوب القرآن ممتع مع فواصل الآيات، وهو أسلوب المد المحزن البكائي في الفواصل التي تمد في حركات.

{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:٥ - ٦]

قال: الجحيم ولم يقل: النار؛ لأن النار تمد وهو تناسب سورة [ص] والسور التي مدت فيها الألف ثم جاءت بعدها حروف، مثل المهاد، المئآب، الثواب، العقاب، القرار، لكن هذه كانت تناسب التحزين لأن السورة سورة بكاء ثم {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:٦ - ٧] الجحيم ترى يوم القيامة.

وصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث أنه: {يؤتى بجهنم يوم القيامة يقودها بأزمة سبعون ألف ملك} ولها زمجرة ولها تغيظ وزفير تكاد أن تتميز وتتقطع من الغيظ، وتريد أن تغير على أهل الموقف -نعوذ بالله من ذلك- ولكنها تصبر حتى يدخل فيها المجرمون.

نعم {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:٧] أتى هنا عين اليقين الرؤية، ويأتي عين اليقين هنا، وهي الدرجة التي ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علم وعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>