[مشروعية زيارة الفاضل للمفضول]
وهل يزور الفاضل المفضول؟ هل من الأدب والشهامة والفضل أن يزور الفاضل المفضول؟
مثلاً عالم يزور تلاميذه، والسلطان يزور رعيته، والشيخ الكبير يزور الشباب، هذا وارد، وممن فعل هذا محمد عليه الصلاة والسلام، فزار أصحابه في أطراف المدينة، وزار النساء كما سوف يأتي في الشرح، وزار الكبار والأطفال والمساكين والأعراب عليه الصلاة والسلام.
أما الكبار فقد زار سعد بن عبادة يوم مرض، فوجده مريضاً مغمى عليه؛ فبكى عليه الصلاة والسلام، فقال له الصحابة: {مالك؟ قال: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه-}.
وسمع أن أعرابياً بدوياً تهزه الحمى هزاً؛ فذهب يزروه، فقال: {لا بأس عليك طهور} فغضب الأعرابي، وقال: بل حمىً تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور.
الحمى هذه ترقص الإنسان حتى تجعله يرقص ويطرب رقصاً عجيباً؛ لأنها تهز كل عضو فيه، تدخل في ثلاثمائة وستين عضواً، فتنفضه نفضاً، كأنه على الكهرباء.
فدخل صلى الله عليه وسلم على الأعرابي، فقال: لا بأس عليك يطهرك الله من الذنوب والخطايا، يا لجلالة الإسلام! ويا لعظمة الدين! يوم تصاب بجرح، أو بألم، أو بمرض، أو تسهر عينك، تكون كفارة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس، ما أتاك بأس، إنما أتاك دواء وبلسمٌ وعلاج وأتاك طهور وماء باردٌ، وحسنات ودرجات عند الله، والأعرابي لا يفقه! يريد أن يأكل ويشرب، قال: لا.
ليست بطهور، بل حمى تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور.
يقول: بعد أيام -إن شاء الله- الموعد المقبرة، فيقول عليه الصلاة والسلام: {نعم إذاً} أي: ما دمت دعوت على نفسك، فنعم إذاً؛ فمات بعد ثلاثة أيام.
وزار صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور رضي الله عنه وأرضاه، أحد الوجهاء من الصحابة، وأحد الذين لهم مواقف خالدة في الإسلام، فلما زاره صلى الله عليه وسلم وكان في سكرات الموت سلم عليه صلى الله عليه وسلم وعانقه، ودموع البراء تهراق، وهو يرفع إصبعه ويقول: [[أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، أشهد أنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً]] وهذا في سكرات الموت! فربما رأى شيئاً من الجنة، أو لاح له شيءٌ من النعيم، فقام عليه الصلاة والسلام عنه، وظن أنه سوف يبقى على قيد الحياة ردحاً من الزمن، وبعد أن وصل مسجده صلى الله عليه وسلم، سمع الهاتف يقول: مات البراء يا رسول الله! فلم يتلعثم صلى الله عليه وسلم، بل استقبل القبلة، ورفع يديه الطاهرتين، الشريفتين، المجيدتين العظيمتين، إلى الحي القيوم، وهو يقول: {اللهم الق البراء فاضحك إليه ويضحك إليك} وهي من أعظم الأدعية في الإسلام، فهو رجل عظيم.
وزار صلى الله عليه وسلم النساء الكبيرات، من أمهات الأبطال والسادة الأخيار من المهاجرين والأنصار، فقد كان يزور أم سليم، وكانت أم سليم إذا نام صلى الله عليه وسلم في بيتها، وتحدر العرق من على جبينه الطاهر، أخذت العرق في قارورة، وكان للعرق هذا رائحة كالمسك في البيت، فإذا مرض أحد أهلها أخذت قطرة واحدة وجعلت هذه القطرة مع ماء وغسلت المريض حتى يشف بأذن الله.
وفي الصحيح أنه زار صلى الله عليه وسلم أم حرام بنت ملحان، وكانت مجيدة، عابدة، زاهدة، ربت أبطالاً، وأخرجت سادات في الأمة، فلما نام صلى الله عليه وسلم في بيتها قام يضحك، فقالت: {يا رسول الله! مالك؟ قال: رأيت قوماً من أمتي يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة، يغزون في سبيل الله -أي: سوف يأتون- قالت: يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم، قال: أنت منهم، ثم نام صلى الله عليه وسلم، ثم قام يضحك، قالت: مالك يا رسول الله؟ قال: رأيت أناساً من أمتي كالملوك على الأسرة كما قال في الأول، قالت: ادع الله أن أكون منهم، قال: أنتِ من الأولين}.
فركبت البحر مع زوجها عبادة بن الصامت، ومع أبي أيوب الأنصاري، يوم قادهم يزيد بن معاوية ليفتحوا القسطنطينية ويعلنوا لا إله إلا الله في القسطنطينية التي ما عرفت لا إله إلا الله منذ قرون عديدة، فأسسوا هناك المساجد وحلق الذكر، والمدارس التي تربي الأرواح، وأما أبو أيوب فلم يعد إلى بلاد العرب مرةً ثانية، فقد قال: [[إذا أنا مت فادفنوني عند آخر بلاد المسلمين حتى يخرجني الله يوم القيامة بين أناس مشركين]] وفي رواية: [[علَّني أن أستيقظ من قبري بين الكفار وأنا أقول: لبيك اللهم لبيك]] فدفن هناك.
عمر رضي الله عنه وأرضاه أرسل جيشاً إلى قندهار التي يقاتل عليها المجاهدون الأفغان، وهي بلادهم وأرضهم وحماهم وتراثهم، فهم يقاتلون عليها أعداء الله الشيوعيين، ففي قندهار هذه قتل أناس كثيرٌ من الصحابة الأخيار؛ فأتوا إلى عمر؛ فأخبروه، وقالوا: قتل فلان وفلان، وعمر يضع عمامته على وجهه ويبكي، ثم لما طالت القائمة بالقتلى قالوا: وأناس لا نعرفهم، فرفع عمر صوته، فقال: إن كنتم لا تعرفونهم فوالذي نفسي بيده إن الله يعرفهم.
بـ قندهار ومن تكتب منيته بـ قندهار يرجم دونه الخبر
وزار صلى الله عليه وسلم أم أيمن، وقد أرضعته عليه الصلاة والسلام، وهي أم أسامة بن زيد، وكانت ترعى أربعين من الماعز للرسول عليه الصلاة والسلام، وكان إذا ولدت واحدة منها ذبحها صلى الله عليه وسلم فكانت تبقى أربعين، وربما كانت تتدلل هذه المرأة الصالحة على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعده ابناً لها، فقد أرضعته وهي كبيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام أعطاها بستاناً من الغنائم، وأراد أن يأخذه من يديها ليعطيه رجلاً فقيراً على أن يبدلها مكان هذا البستان بآخر، فرفعت صوتها ورفضت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وترك البستان لها.
ولما توفي عليه الصلاة والسلام -وهذا الحديث في الصحيحين - قال أبو بكر وقد تولى الخلافة: [[يا عمر! اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فذهب الشيخان الجليلان، والبطلان القائدان إلى أم أيمن، فجلسا عندها فأخذت تبكي، وقد تذكرت، فقال أبو بكر: مالك تبكين؟ أما تعلمين أن ما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما عندنا؟ قالت: أعلم ذلك، ولكن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلان يبكيان]] وهذا في الصحيحين.
وقلت: يزور الفاضل المفضول، فالإمام الشافعي لامه بعض تلاميذه، قالوا: تزور أحمد بن حنبل، وأحمد أصغر منك سناً وأنت أعلم منه، فقال مقطوعة، يقول فيها:
قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له
وقد كتب للإمام أحمد يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعه
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعه
فرد الإمام أحمد يقول:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعه
لأنه قرشي من أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: أنت تحب الصالحين، وأنت من أكبر الصالحين، فلا تتواضع في هذا الجانب، فأنت معروف بقيام الليل والتلاوة والصدق ونشر العلم.