[حالة القرآن مع الخلف]
المسألة الثالثة قبل أن أبدأ بتفسير القرآن: حالة القرآن مع الخلف، بعض المناطقة الأغبياء يقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم!
أي: إن السلف دائماً لا يتكلمون في القضايا الحرجة، مثل الصفات، والغيبيات فقالوا: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
قلنا لهم: بل طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، وطريقة الخلف أغشم وأظلم وأجرم.
أما القرآن فإنه طالت به العهود إلى أن أصبح للرقى والتمائم، إذا صرع مصروع ودخلت عليه جانة بركوا على صدره وقرءوا عليه القرآن ولا بأس بقراءة القرآن، لكن القرآن لم ينزل للمجانين فحسب، بل نزل للعقلاء ليحكموه في حياتهم وفي اقتصادهم واجتماعهم وأخلاقهم وسلوكهم، لكن مرحلة القرآن بعد قرون أصبحت لهذا الأمر، إذا صرع مصروع بركوا على صدره وقرءوا عليه آية الكرسي.
إذا أتى حفل ومناسبة ووليمة بدءوا بآيات من القرآن الكريم وكأنهم يقولون: هذا القرآن للحفلات والتمائم: يكتبون عليها آيات القرآن، والأهازيج والمواليد التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ويجتمع المتصوفة وتنكس رءوسهم بعد أن يأكلون القصع من العصيد:
وقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع
فجعلوا القرآن لهذه الأمور.
ثم جعل القرآن للتأكل به، فقد وجد صنف من الناس وقراء ما أخذوا طريق الراتب والمعاش إلا من القرآن، يريد أن يتعلم التجويد والقلقلة ليكون قارئاً في التلفاز وفي الراديو ليستلم راتباً!!
سبحان الله! يتأكل بكلام الله! سلوكه وإيمانه ومعتقده في واد، والقرآن في واد آخر.
رأينا حليقين عليهم من آثار البشاعة والخوف، ويصاب الإنسان برجفة إذا رآهم يقرءون القرآن ويتمتمون به فلا يصبح للقرآن طعماً ولا ذوقاً ولا أحاسيس؛ فهذا قرآن التأكل.
والتأكل بالقرآن، للمسابقات وللجوائز، أنا لا أقول: حرام.
لكن لا بد أن يكون مقصد الشاب الذي يتسابق وجه الله، ثم تأتي الجائزة فيما بعد، أما أن يسابق ليحفظ عشرة أجزاء لينال جائزة ثم ينسى العشرة ويأخذ الجائزة ولا يصلي ولا يعتبر بالقرآن، فهذا آثم يسحب على وجهه إلى النار -نعوذ بالله من النار-.
فهذا القرآن أتى إلى تركيا فحولها إلى أمة إسلامية، فلما تركت القرآن في عهد أتاتورك وسجدت للعلم فسميت علمانية سلخ الإيمان والمهابة والقداسة من علم تركيا.
أتى إلى باكستان فحولها إلى أمة إسلامية في عهد الفتوح، فلما تركت القرآن تحولت إلى أمة متخلفة.
أتى إلى أمم كثيرة وكثيرة لا نذكرها في هذا المجال لأنكم تعرفونها، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
ونحن اليوم نشكو حالنا إلى الله، والقرآن يشكو إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من وضعنا معه، فكثير منا لا يقرأ القرآن إلا يوم الجمعة إذا تيسر له ذلك، فيقرأ سورة الكهف وهو نعسان لا يدري لماذا أنزلت؟ فلا يعرف تفسير القرآن، وما أحيا بيته بالقرآن، ولا عاش مع القرآن، ولا تدَّبر القرآن، حصيلته من القرآن قليلة جداً، حتى سمعت من بعض الناس يحلف لزميله ويقول: والله ما قرأت القرآن ستة أشهر.
ويلك من الله، وتحلف! إذا بليتم فاستتروا، ستة أشهر بلا حياة! ستة أشهر بلا نور! ستة أشهر بلا فهم! ستة أشهر في تخلف! والله لو جمعت كتب الدنيا وقرأتها ثم لم تقرأ في القرآن، كأنك ما قرأت شيئاً.
حتى يقول العلماء لما رجعوا إلى القرآن وكثير من المفكرين لما تابوا ومن الناس الكبار كـ سيد قطب وغيرهم قال: لما أتينا إلى القرآن كأننا ما قرأنا شيئاً.
وبدأنا مع القرآن.
يقول محمد إقبال: أنا ثروتي وكنزي أن أقرأ القرآن بعد صلاة الفجر.
موجود هذا في روائع إقبال لـ أبي الحسن الندوي.
ودخل محمد إقبال على ملك أفغانستان قبل أربعين سنة فقال لملك أفغانستان: أريدك في كلمة بيني وبينك؛ فأغلق عليه الباب هو وإياه، فأخرج محمد إقبال -شاعر باكستان الشاعر العالمي- المصحف وقال: "يا فلان، يا ملك أفغانستان! أوصيك بهذا القرآن ".
فبكى ذلك الملك وقال: والله من كذا وكذا سنة ما أسمر إلا على القرآن.
وأورد ابن كثير في ترجمة المتقي لله أحد الخلفاء العباسيين قال: "لما تولى الخلافة أخذ مصحفاً وقال لوزرائه والأمراء: اخرجوا عني، كفى بالقرآن سميراً".
قال الشاطبي في الموافقات: "من أراد أن ينصح نفسه، فليأخذ القرآن سميراً وأنيساً له".
وهذا خالد بن الوليد في آخر حياته أخذ المصحف وأخذ يقرأ طيلة النهار ويبكي ويقول: [[شغلني الجهاد عن القرآن]] لم يقل شغلني لعب الكرة أو الشهوات أو الروحات أو الزملاء بل قال: شغله الجهاد عن القرآن.
وعثمان بن عفان في سيرته بسند صحيح أنه كان يقرأ القرآن من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر، فيقول له الصحابة: لو رفقت بنفسك.
قال: [[لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن]].
كتاب أنزل على الناس ليحيي قلوبهم فكان حظه الهجر، وهجر التدبر، والتلاوة، ونأخذ الآن مذكرات ألفها البشر أساتذة، ونسهر عليها الليالي الطويلة أيام الامتحانات، ونضع تحت كل كلمة قالها الأستاذ وهو ينعس، ونخرج الدر منها والياقوت والمرجان وليس فيها در ولا ياقوت ولا مرجان، ثم نأتي وقد صممناها صماً ثم ننساها نسياناً، ولو أعطينا القرآن ربع هذا الاهتمام أو عشر هذا الاهتمام لعشنا بالقرآن؛ وأنا أتكلم عن غالب الناس وأمثالي من الناس، فهذا هو موقف الخلف مع القرآن.