[ذهابه إلى الراهب]
فخرج وثيابه ملطخة بالدماء، وسيفه وأصابعه تقطر، وأتى كالمذهول المدهوش يقول للناس: هل لي من توبة؟
فقال الناس: ندلك على راهب في صومعة، اذهب إليه واسأله هل لك من توبة؟ -لأن المعروف عند الناس أنه لا يفتي إلا مفت، ولا يتكلم في مسائل العلم إلا عالم، ولا يتحدث إلى الناس إلا فقيه- اذهب إلى ذاك الراهب في تلك الصومعة في الكهف، فاسأله: هل لك من توبة؟
فذهب إلى ذاك الراهب -والراهب عابد من عباد بني إسرائيل- ما عبد الله على بصيرة: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧] وهذا الدين لا بد له من دليل، لا بد له من علم وتفقه، من جلوس في الحلقات وسؤال أهل العلم، فالدين لا يبنى على الجهل.
ذهب هذا المخطئ المذنب الباكي الحاسر، الذي راجع حسابه مع الله وندم على ما فعل، ذهب بخطاياه وأسفه وذنوبه، فطرق باب الغار، فخرج له هذا العابد الذي حرم على نفسه اللحم، والله لم يحرم عليه اللحم، وحرم على نفسه الزواج، والله لم يحرم عليه الزواج، وحرم على نفسه الراحة، والله لم يحرم عليه الراحة، فتح له الباب فدخل الرجل وإذا ثيابه تقطر بالدماء، فقال الراهب: أعوذ بالله منك!
وهل يفعل العالم هذا؟
وهل يفعل الداعية للمذنبين هذا الفعل؟
باب الله مفتوح، وعطاؤه يغدو ويروح، ونواله ممنوح {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} فقال هذا التائب: يا أيها الراهب العابد! أنا قتلت تسعاً وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟
أنا راجعت حسابي مع الله، وقد أسأت مع الحي القيوم، فلما تذكرت القبر وما بعد القبر والصراط والميزان والجنة والنار تبت إلى الله، فهل لي من توبة؟
أيهذا الشاكي وما بك داءٌ كيف تغدو إذا غدوت عليلا
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقه الندى إكليلا
والذي نفسه بغير جمالٍ لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
فقال: هل لي من توبة؟ قال: لا توبة لك.
سبحان الله! أتغلق باباً فتحه الله؟! أتسد طريقاً أمضاه الله؟! أتقطع حبلاً أرسله الله؟! أتكف قطراً بعثه الله؟! أتسد أنبوباً فتحه الله؟! الله الذي خلق وقدر، والله الذي يغفر ويحاسب، والله الذي يناجي العبد يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فما دخلك بين العباد وبين الله؟ أأنت تفتي في هذه المسائل؟!
قال: لا توبة لك فيئس هذا المجرم من الحياة، وأظلمت في عينيه الحياة، وصغرت في عينه الإرادة والعزيمة، وأصبح الجمال في وجهه ليلاً مظلماً، قطع حبل الله الذي بينه وبين عباده، وأغلق باب الله الذي فتحه بينه وبين عباده، فحمل سيفه فقتل هذا المفتي الراهب، فوفى به المائة جزاءً نكالاً.
وانظر إلى فساد الفتوى، الذي يتصدر للفتوى وهو لا يجيدها يهدم أكثر مما يبني، ويخرب المجتمعات، ويفسد القلوب، ويعطل الإرادات، ويغلق الهمم، ويهدم حصون العزائم.