[بعثته صلى الله عليه وسلم]
واستمر به الحال عليه الصلاة والسلام فلما بلغ الثلاثين أنكر وضع الدنيا، فإن العالم يعيش على خطأ، وأخذ يبحث عن الصواب، وسوف يأتي به جبريل من رب الأرباب.
كان يخرج من مكة إلى غار حراء يتعبد، فكان يتحنث ويتوجه بقلبه إلى الله، يعرف أن للكون إلهاً خالقاً رازقاً وأنه يستحق العبادة، ولكن ما عنده مصحف يقرأ فيه، ولا يعرف الصلاة، قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:٥٢] ويقول الله فيه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨] ومكث في الغار، يظل الأربع الليالي والخمس يتعبد، ثم ينزل إلى خديجة فيمتار ميرةً ويعود، وفي أثناء ذلك، أتاه جبريل وله ستمائة جناح، كل جناح قد سد ما بين المشرف والمغرب، فدخل عليه وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ.
كفاك بالعلم في الأمي معجزةً في الجاهلية والتأديب في اليتم
قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فأخذه فألصقه على صدره ثم غطه، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق:١ - ٣] فانطلق يقرأ، ثم أطلقه، فذهب ونزل من الغار، وأخذ ينظر في السماء، كلما نظر في ناحية من السماء، إذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض، ووصل إلى خديجة، إلى الحكيمة العاقلة، إلى الزوجة العاقلة البديعة الرائعة قال: زملوني! زملوني! لقد خشيت على نفسي.
ثم أخبرها الخبر، فنطقت الصدق، وكلمات الواقع، وكلمات العدل والحق وقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، لماذا؟ ألمنصبه؟ ألأسرته؟ ألماله؟ ألشهرته؟ لا، قالت: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، والله لا يخزي أهل المعروف.
وانطلق عليه الصلاة والسلام يدعو قومه إلى الله، انطلق عليه الصلاة والسلام يخرج الأمة من الظلمات إلى النور، حتى أصبح أتباعه اليوم -في الجملة- ملياراً ودينه اليوم يعلو وينتصر.
الشيوعية كان لها مليار، فانسحقت قبل سنوات، ولعنت على ألسنة البشر، لماذا؟ لأن الحق هو الذي ينتصر والباطل ينمحق، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:١٧] لقد قال: عليه الصلاة والسلام: {لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله} ونحن لا نطريه، وإنما نقول: هو عبد الله رسوله، ولكن من واجب الأمة علينا أن نلفت أنظارها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، لماذا؟
لأن الأمم والشعوب لم تلفت أنظار الناس إليه، فكان من مسئولية العلماء والدعاة أن يذكروه على المنابر، وأن يشيروا إلى شيء من عظمته ورسالته؛ لأن البشر -في العموم- استبدلوا بعظمته عظمة أناس لا يساوون الغبار الذي على قدميه، ولا جلد حذائه الذي كان يمشي به عليه الصلاة والسلام.
نور من الغار أم صوت من الغار أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألق تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
شادوا الدنانير هالات مزخرفة جماعها لا يساوي ربع دينار
ويبقى رسول الله عليه الصلاة والسلام إماماً، لكن ليس إلا لمن أراد أن يكون إمامه صلى الله عليه وسلم، فيكون إماماً لأهل الصلوات الخمس، وللصادقين، والمخلصين، وإماماً لأولياء الله، أما الأشقياء فلهم أئمة، وأما الأدعياء فلهم قادة، وأما الحقراء الصغراء، فلهم زعماء: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:٧١] وإمام الأخيار محمد عليه الصلاة والسلام، يقول أحد الصالحين وقد ذكر إمامته:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وكان ابن تيمية يزيد ويقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
فنسأل الله أن يثبتنا على منهجه، وأن يجعلنا من أتباعه، وأن يسقينا من حوضه، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يغمرنا في زمرته، وأن يهدينا سنته، وأن يوقظنا من غفلتنا باتباعه عليه الصلاة والسلام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.