[الإمام يقص خبر المحنة]
قال الإمام أحمد: أُخذت من بيتي وسط الليل وأنا أصلي، فوضع الحديد في يدي وفي رجلي حتى كان الحديد أثقل من جسمي -القيود التي حمل فيها أثقل من وزنه هو- ووضع على فرس، قال: فلما وضعت على فرس، أتيت أتمسك فما استطعت أن أتمسك، فكدت أسقط ثلاث مرات، كل مرة أقول: اللهم احفظني! فكان يردني الله حتى أتساوى على الفرس: {احفظ الله يحفظك} وكان الجندي الذي معه يضرب الفرس علّ الإمام أحمد يسقط على وجهه.
قال: فلما أدخلت السجن سحبت على وجهي فنزلت، قال: فكنت أستغفر الله، فنزلت في آخر الليل، قال: فلا أدري أين القبلة؟ ولا أدري أين أنا، في ظلام وفي وحشة لا يعلمها إلا الله، فكنت أقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:١٢٩] قال: فمددت بيدي فإذا بماء بارد، فتوضأت منه وقمت أصلي إلى الفجر.
انظر إلى حفظ الله، حتى في الساعات الحرجة لا ينسى ربه تبارك وتعالى، لأنه العون تبارك وتعالى:
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
قال: فلما أصبح الصباح، حملت على الفرس ثانية، وما طعمت طعاماً، وكدت أسقط من الجوع، فأدخلت على المعتصم الخليفة العسكري الثاني، صاحب عمورية بعد المأمون.
قال: فلما دخلت عليه هز السيف في وجهي، وقال: يا أحمد! والله إني أحبك كابني هارون، فلا تعرض دمك لنا.
فقال الإمام أحمد: ائتوني بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
حاول المعتصم معه ليجيب ويقول: القرآن مخلوق، فرفض، فدعا بالجلادين، ودُعي بجبار من الجبابرة؛ رأس الحرس الذي يتكون من خمسين ألفاً، يرأسه عجيف.
فقال المعتصم لـ عجيف: اضرب هذا الرجل -أي: الإمام أحمد - قال: فجلده مائة وستين سوطاً حتى غشي عليه، ثم استفاق، وكان يقول: لا إله إلا الله حسبي الله ونعم الوكيل؛ لأنها أقوى الكلمات، إنها قوة هائلة! إنها قوة فتاكة! حسبي الله ونعم الوكيل!
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[قالها إبراهيم فنجاه الله من النار، وقالها محمد فنجاه الله من كيد الكفار]] صلى الله على رسوله وسلم تسليماً كثيراً.
ورفض أن يجيب حتى تملغ وتجلد ظهره من كثرة الجلد، فرفع على الفرس وأعيد، وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهراً، وسرد الصيام وهو في السجن في هذه الفترة كما قال ابنه عبد الله، فما أفطر يوماً واحداً، يعرض عليه الإفطار، وكان الخليفة يحبه، يقول: لا تأتوني بالعشاء حتى تعرضوه على الإمام أحمد.
فيعرضون له المائدة ليأكل، فيقول: والله لا آكل لهم لقمة، ولا أشرب لهم شربة.
على ماذا كان يتغذى الإمام أحمد؟ كان عنده جراب فيه سويق، فإذا اقترب وقت المغرب أخرج كفاً منه، ثم وضعه على الماء وشربه، هذا غذاؤه في ثمانية وعشرين شهراً.
ثم في الأخير عرض على السيف مرات ورفض، فلما أعجزهم وأكلَّهم وأملَّهم أعادوه إلى بيته، فأنزلوه وهو جريح.
يقول ابنه عبد الله: دخل أبونا علينا في الليل بعدما أُطلق من السجن، فأنزلناه من على الفرس، فوقع من التعب ومن الإعياء ومن الضعف والهزال والمرض على وجهه، قال: فبقي أياماً، ثم تولى الخلافة المتوكل فنصر السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام أحمد، فبكى الإمام أحمد وقال: والله إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة، فرفض وما أخذ شيئاً، وبقي على هذا الحال.
وكان يقول: يا ليتني ما عرفت الشهرة! يا ليتني في شعب من شعاب مكة لا يعرفني الناس!