للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أقسام الإفساد عند المنافقين]

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] في الآية إخبار وحصر، أما الإخبار فقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:١١] ما هو الإفساد في الأرض؟ الإفساد في الأرض على قسمين: إفساد بتعطيل الديانات، وإفساد بإرهاق الأنفس وقتلها، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة آل عمران: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٤ - ٢٠٥] فما هو فساد هؤلاء؟ فسادهم في تعطيل الديانات والرسالات لا من إزهاق النفوس.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض}) [البقرة:١١] إفساد المنافقين هو بتعطيل ما أنزل الله على رسوله وبتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، وبإدخال الشك والريبة في قلوب المؤمنين وهذا أعظم فساد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:١١] ما هو أصل الجواب؟ إنسان يقول لك: لا تفسد، الجواب أن تقول: أنا لا أفسد، لكن الأدهى والأمَرْ أن يقال لك: لا تفسد، فتقول: إنما أنا مصلح، لو قالوا: ما أفسدنا لكان أسهل، لكنهم: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] كما لو قلت للكافر: لا تكفر بالله، يقول: ما كفرت هذا يمكن أن تتفاوض معه، لكن أن يقول: إنما أنا مؤمن، فهذا من الطامة.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] وهنا حصر " إنما " " نحن " بالضمير المنفصل وهو من أدوات الحصر (إنما نحن مصلحون) ما هو الجواب؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:١٢] وسوف نتحدث بعد قليل عن السر بين كلمة (يشعرون) و (يعلمون).

يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] قال أهل العلم إفساد المنافقين: بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والتشكيك في رسالته، والاستهزاء به من خلفه.

١/ تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم:

الرسول عليه الصلاة والسلام في الخندق يحفر وبه من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، وضع حجرين على بطنه، والصحابة وضعوا حجراً حجراً فأتى الصحابة يشتكون إليه ورفعوا عن بطونهم فرأى الحجر فتبسم صلى الله عليه وسلم ورفع ثوبه عن بطنه فإذا.

ينزل صلى الله عليه وسلم والأعداء من حوله حلقة، الكفار والمنافقون واليهود والمشركون: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:١٠] أي القلوب التي في الصدور أصبحت في الحنجرة من كثرة الخوف، ومع ذاك الخوف يأتي صلى الله عليه وسلم يأخذ المعول فيضرب به الصخرة فيلمع الشرر في الجو، فيقول: هذه قصور كسرى! فتحها الله عليَّ فيتضاحك المنافقون ويتغامزون، فقالوا: أحدنا لا يستطيع أن يبول من العدو ويقول: يفتح الله عليه قصور كسرى {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:١٢] فيأتي صلى الله عليه وسلم فيضرب الثانية فيلمع الشرر في الجو، فيقول: هذه قصور هرقل يعني ملك الروم وسوف يفتح الله عليَّ الأبيضين: الأبيض والأحمر يعني الذهب والفضة، فيضحكون ويقولون: يفتح الله عليه قصور هرقل! وبعد خمس وعشرين سنة يفتحها الله عليه.

٢/ الاستهزاء بالصالحين:

من استهزائهم ما قاله عبد الله بن أبي حين اختلف أجيران أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على ماء فتضاربا فكسع المهاجري الأنصاري فقال عبد الله بن أبي: صدق القائل: (سمن كلبك يأكلك، وجوع كلبك يتبعك) يعني: أن الصحابة لما أتوا من مكة كانوا جياعاً، فأطعمناهم حتى سمنوا فأكلونا، فذهبوا بكلامه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

ويقول أيضاً: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:٨] يقول: إذا رجعنا سوف نخرج هؤلاء المهاجرين، فوصل الكلام إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسكت، فقال عمر: يا رسول الله اقتله فإنه منافق، فقال صلى الله عليه وسلم: سوف يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.

فأتى ابنه البار الراشد ابن عبد الله هذا واسمه عبد الله لكن الله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:٩٥] أرأيت الشوك يوم يخرج منه الورد، هذا المنافق أتى من صلبه مؤمن يحمل السيف، ويقول: يا رسول الله، لا تأمر أحداً بقتل أبي فوالله الذي لا إله إلا هو، لا أطمئن في الحياة ولا أمشي على الأرض وأنا أرى قاتل أبي إلا قتلته، ولكن إن تريد رأس أبي هذا اليوم فوالله الذي لا إله إلا هو لآتينك برأسه، قال صلى الله عليه وسلم: {أإنك قاتله؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو إن أمرتني بقتله لأقتلنه الآن -وصدق- فقال صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به} يعني نصاحبه معروفاً، انظر إلى بعد النظرة، قال أحمد شوقي:

المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء

وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء

وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء

وتمد حبلك للسفيه مدارياً حتى يضيق بحبلك السفهاء

وإذا خطبت فللمنابر هزة تعدو الندي وللقلوب بكاء

وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ظغن ولا بغضاء

وإذا سعيت إلى العدى فغضنفر وإذا جريت فإنك النكباء

فلما أراد عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة وقف عبد الله بن عبد الله ابنه عند مدخل المدينة فلما رأى أباه سل السيف أمامه وقال: [[والله الذي لا إله إلا هو، والذي شرف وجه محمد بالنبوة لا تدخل المدينة حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ولم؟ قال: لأنك الأذل وهو الأعز -هو عكس الآية عليه- فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن]] يدخل هذا المنافق الكبير.

في تبوك يأتي المنافقون فجلسوا في السمر، ودائماً إذا خلوا يخرجون ما في قلوبهم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا} [البقرة:١٤] لم يقل: إذا ذهبوا، لأنهم يحبون الخلوات ويحبون الدياجير والساعات الحمراء مثل الماسونية وأذناب الصهيونية العالمية والقومية والعلمانية يحبون السمر من الساعة الثانية إلى الفجر دائماً: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] وسوف يأتي من هم شياطينهم ولماذا وصفهم بالشيطنة؟ وماذا يفعلون في خلواتهم؟ فخلوا في آخر الليل يتضاحكون قالوا: ما رأينا كقرائنا أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء يقصدون قراء الصحابة.

وفي الصباح ولكن الله السميع البصير أنزل جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: الحق بهؤلاء فقد احترقوا، يعني احترقوا في النار، أتى صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لكم لماذا قلتم البارحة كذا وكذا؟ فأتوا يمسكون بحبل الناقة من أمامها ومن خلفها ويمسحون يد الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، كنا نمزح فقال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:٦٥ - ٦٦] ولذلك في الحديث {رب كلمة يقولها صاحبها لا يلقي لها بالاً؛ تهوي به في النار سبعين خريفاً، ورب كلمة من الخير لا يلقي لها صاحبها بالاً يرفعه الله عز وجل عنده في الجنة}.

مثل إنسان يقول في المجلس وهو يريد أن يضحك الناس فيتكلم على عالم من علماء المسلمين، أو على سنة، أو على هيئات الصلاة، أو يتكلم عن صيام رمضان، أو عن بعض القضايا الإسلامية، كالقرآن والحرم أو أي شيء فيه اسم الإسلام هذه ربما تهوي به في النار ويحترق سبعين خريفاً لا ينجو من النار أبداً، يقول كلمة يكفر بها العبد ربما يستهزئ بسنة صغيرة من السنن فيدخل بها النار -والعياذ بالله، ونسأل الله العافية والسلامة- وابن الراوندي الملحد والقاسم بن عبيد الله أحد الوزراء الملاحدة كان وزيراً عباسياً وكان ملحداً، دخل عليه أحد العلماء: فتساءل هو وإياه، قال: في أي سورة هذه؟ قال: في سورة البقرة، قال الوزير: في بقرتكم أنتم، فقال هذا العالم: والله ما صدقت أنه ملحد إلا ذاك اليوم.

والإمام أحمد قال له رجل: إن فلاناً يتنقص أهل الحديث ويسب أهل السنة طلبة العلم، قال: زنديق زنديق، وزنديق يعني: ملحد وقد يلحد الإنسان بكلمة والعياذ بالله.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] هذه دعوى عريضة.

والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء

{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:١٢] انظر إلى الضبط (أَلا إِنَّهُمْ) بالتأكيد بـ (إن) المؤكدة، (هُمُ) الضمير المنفصل (الْمُفْسِدُونَ) بأل (وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) إنما قال: لا يشعرون، لأن الشعور مع الدقة والخفاء والعلم مع الشيء الجلي الواضح.

٣/ اتهام الصالحين بالسفه:

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:١٣] أي إذا قيل للمنافقين: آمنوا كما آمن الناس، أي: الصحابة من المهاجرين والأنصار، وإذا قيل لشخص اهتدي كما اهتدى آل فلان قال: هم سفهاء متخلفون متطرفون متزمتون، وهذه أسماء تعرض دائماً لكن بألقاب تتغير مع مر التاريخ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:١٣] يعني: الصحابة على رأي ابن كثير ومجاهد وغيرهم من العلماء {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:١٣] السفيه الذي لا يملك رشده، والسفيه: الذي يضع الشيء في غير موضعه، وقد يكون الإنسان سفيهاً وهو كبير، يعني: لا يملك رشداً {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:١٣] يقصدون بالسفهاء الصحابة -قاتل الله أولئك المنافقين- والصحابة هم الصحابة وأبصرهم وأكثرهم إشراقاً.

وفي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) [البقرة:١٣] أعاد الله الضمير و (أل) ليحصر فيهم السفه {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٣] هنا أتى بـ (لا) يعلمون، وهناك أتى بـ (لا يشعرون)؛ لأنه هنا أمر جلي وواضح أنهم هم السفهاء، ولكن هناك التبست عليهم الأمور فقال: لا يشعرون {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} وهذا وذاك من الجهل المركب الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

<<  <  ج:
ص:  >  >>