للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تأثر العلماء بالقرآن]

كان ابن عباس يبكي حتى يرحمه جلساؤه، قال أبو وائل: [[والله لقد رأيت جفن ابن عباس من البكاء كالشِّراكَين الباليَين]] وصح عنه: أنه قام ليلة في الحرم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يبكي: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:١٢٣].

أبو بكر لما نزلت هذه الآية كما في المسند سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام فتَماطَّ لها، قال: {ما لك يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! كيف العمل بعد هذه الآية؟ قال: غفر الله لك يا أبا بكر، ألستَ تهتم؟ ألستَ تحزن؟ ألستَ تمرض؟ قال: بلى، يا رسول الله، قال: فإنه لا يصيب المؤمن مِن هَمٍّ، ولا وَصَبٍ، ولا غَمٍّ، ولا نَصَبٍ، ولا مرض، إلا كَفَّر الله بها مِن خطاياه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

ومِمَّا يؤثر في هذا الجانب ما ذكره وكيع: أن ابن عمر رضي الله عنهما قرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:٥٤] فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، لماذا؟ لأن طريق الجنة لا يأتي إلا بخشية الله، وليست الخشية بالبكاء فقط، قال بعض أرباب القلوب: رُبَّ باكٍ دمعت عيناه، ولكن لا ينظر إلى نظر الله إليه، ورب ساكت ساكن يخاف من وقعات قدمه أن تطيش به في نار جهنم وليس المقصد البكاء، لكنه من دلائل الخشية، وإنما المقصد خشية الواحد الأحد: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨].

خرج ابن المبارك العالم، الزاهد، العابد، الشهير مجاهداً، فمر بقصر الطاهر بن الحسين، وهو قصر في خراسان، كان في الليل عنده سُرُج من الزيت والشحم، فنظر إلى القصر، وكان القصر بهياً مهولاً، فدمعت عينا عبد الله بن المبارك، وقال: " والله لقصيدة عدي بن زيد أحب إليَّ وأحسن عندي من هذا القصر "، وعدي بن زيد جاهلي، يقول في قصيدته:

أيها الشامِتُ المُعَيِّر بالدهرِ أأنتَ المُبَرَّأ الموفورُ؟!

من رأيت المنون خلفن أم من ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كِسْرى المُلوك أنُو شر وان بل أين قَبْلَه سابورُ

ثم قال ابن المبارك وهو يبكي: [[ضيعنا حياتنا في بعض المسائل، وتركنا الجهاد]] وهو صاحب المقطوعة المليحة:

يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَنا لعلمتَ أنَّك بالعبادة تلعبُ

وهي مشهورة، وهو صاحب تلك المقطوعات الجيدة الرائعة غفر الله ذنبه، ورفع منزلته عنده؛ لكن المقصد: خشيته سبحانه تعالى.

قال مالك بن أنس: [[ما ظننت أن في أهل العراق خيراً -هذا مالك يرى ذلك- حتى رأيتُ أيوب بن أبي تميمة السختياني سلم على قبر الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو عالم أهل العراق - فكادت أضلاعه تختلف من كثرة البكاء]].

فعسى الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا وإياكم عينين هطالتين بالدموع، وأن يجعلنا ممن يخشونه خشية ظاهرة وباطنة بالأقوال والأفعال وليس بالكلام فحسب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>