[الداعي لعقد هذا الباب ومكانة الكنية عند العرب]
ولكن قبل أن نتحدث يحق لنا أن نقف مع البخاري قليلاً، ونقول له: ما هو الداعي من عقد هذا الباب؟ وهل أنكر أحد من العلماء أو أهل العلم أن يكنى الصغير بكنية، أو الرجل الذي لم يولد له؟
سوف يقول لنا: لا.
لم ينكر أحد حتى من الجاهليين، ولكن لا نعمل في أدبنا ولا في سلوكنا، ولا في تعاملنا إلا بسنة.
فهذا هو مراد البخاري الذي يعرف من سياق كلامه، فنقول له: بيض الله وجهك يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وهذا هو الصحيح، وإلا فالجاهليون متعارفون على الكنية، يقول شاعر اليمن وهو يمدح نفسه بحسن الأدب:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
يقول: من أدبي أني لا أنبز الناس بألقابهم: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:١١] ولكنني أتحف الرجال بأسمائهم فأكنيهم، يا أبا محمد، يا أبا علي.
وقد أثر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: [[ثلاث تورث لك الود في صدر أخيك:
أولها: أن تناديه بأحب الأسماء إليه -وأحب الأسماء عند العرب أن تكنيه، يا أبا علي، يا أبا عبد الرحيم، يا أبا فلان، هذه الكنى-
والأمر الثاني: أن توسع له في المجلس.
والأمر الثالث: أن تبش وتهش في وجهه]]
وهذه من مدرسة النبوة، ولا يخرج الكنز إلا من هناك، وكلام عمر رضي الله عنه لم يأتِ إلا من مشكاة محمد عليه الصلاة والسلام، والعرب متعارفة -كما قلت- على الكنية، يقول النابغة الذبياني، وهو يخاطب النعمان بن المنذر ملك العراق:
نبئتُ أن أبا قابوس أوعدني ولا قرار على زأر من الأسد
وهذا النابغة شاعر، قد تكلم في عرض النعمان وهو في الصحراء، فتكلم في الملك واتهمه بأمور، فنقل الوشاة والعيون الخبر للملك، فقال الملك: من وجده منكم فليذبحه ذبح الشاة، فذهب يمشي ولا ينام، حتى خاف أن يموت قهراً وكمداً فعاد وقد نظم قصيدتين -لا بأس من إيراد بعضها- وذهب بهما إلى النعمان، منها هذه القصيدة، ومنها قوله، وهي من أحسن وألطف الأشعار في الرقائق والاستجداء، والتلطف، يقول للملك النعمان:
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيب
إلى أن يقول وهو يشكي همه وحزنه:
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
علي لـ عمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
إلى أن يقول للنعمان:
حلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
ثم مدحه وقال:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ثم أتى فكناه في القصيدة.
وقالوا: ليس للنعمان ابن اسمه قابوس، وإنما العرب تكني من لا ولد له، فهذا أمر.