[قصة إسلام أبي ذر]
سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام أطل في طلعته البهية في مكة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] واستقبلت الدنيا دعوته وسمعت المعمورة رسالته، فقال لأخيه أنيس: اذهب إلى هذا الرجل إلى مكة وأعطني خبره، تعال بخبره، فذهب أخوه، ولكن استعجل في ذهابه، ركب ناقته ووصل إلى الحرم، فأخذ الأنباء ما تثبت لقي مثل أبي لهب وأبي جهل وأمثالهم، عصابات الإفساد والإجرام، فسألهم من هذا الذي يدعي النبوة؟
قالوا: ساحر شاعر كاهن، وهكذا عدوك إذا وصل الخبر إليه، فحذار حذار، سوف ينزل عليك من الشائعات ما الله به عليم، فعاد إلى أخيه، فقال: وصلت مكة فسألت الناس، فقالوا: شاعر ساحر كاهن، قال: من سألت؟
قال: سألت أهل مكة، قال: ما شفيتني، المثل العام يقول: ما قضى لي حاجة مثل نفسي، أنا آتيك بالخبر، وأنا أصل إلى الخبر إن شاء الله في مستقره، قال: عليك بالغنم والأهل احفظهما.
ركب جمله قال: وأخذت قربة -أي إداوة صغيرة- فعبأتها ماءً ثم جلست على بعيري حتى قدمت الحرم، وأول من صادف علي بن أبي طالب، من ترعرع على لا إله إلا الله، غرس في قلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:٢٥] فقال لـ علي: من هذا الرجل وما عرف أنه ابن عم الذي بعث.
قال: هو نبي حقاً، من أين أنت؟ قال: من غفار، قال: أتريد أن تراه؟ قال: نعم، قال: انزل معي، فإذا رأيتني أصلح نعلي، فاعرف أنه الرجل الذي يحاذيني؛ لأن كفار قريش حول الرسول عليه الصلاة والسلام حظروا الاتصال به صلى الله عليه وسلم، وكانوا على أنقاب مكة وعلى مداخل مكة، إذا رأوا العربي حذروه، وقالوا له: احذر أن يضلك هذا الساحر، أو الشاعر، أو الكاهن.
في صحيح مسلم أن الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني قال: قدمت مكة، لأرى وأسمع الرسول عليه الصلاة والسلام قال: فوالله ما زال بي كفار مكة حتى شككوني في نفسي وقالوا: لا تسمع منه إنه ساحر يسحر، إنه كاهن يتكهن عليك، قال: حتى أخذت القطن فوضعته في أذني سبحان الله! لكن لا إله إلا الله أقوى من القطن، ولا إله إلا الله تفجر طبقات القطن، وتدخل إلى القلوب من وراء القطن، قال: فوضعت القطن في أذني لئلا أسمع شيئاً، ولكن الله أراد أن يهديه، قال: فجلست في طرف الحرم، فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم بعيداً، قال: فاقتربت رويداً ثم قلت لنفسي: يا عجباً لي، أنا شاعر من شعراء العرب -وهو شاعر- وخطيب أعرف فصاحة الكلام من هزله! فكيف لا أسمع؟! فإن أعجبني وإلا تركت، وأراد الله أن يهديه، فنزع القطن، هذا أول مشروع الهداية، هذا قص الشريط إيذاناً بافتتاح لا إله إلا الله في قلبه، فاقترب منه فسلم عليه، قال: عم صباحاً يا أخا العرب، قال: أبدلني الله بتحية خير من تحيتك السلام عليكم ورحمة الله
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
لا بأس بتكرير الكلام- فجلس عنده، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم أسمعني مما تقول: فأسمعه مقطعاً من الآيات، قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
فأتى علي بن أبي طالب فقال لـ أبي ذر: إنني إذا نزلت الحرم فسوف أتظاهر بأنني أصلح نعلي، فإذا رأيتني أخصف النعل فتقدم إليه، فهو الرجل الذي يليني.
فنزل معه واقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام ووقف علي بن أبي طالب يصلح نعله ويخصف نعله، فتقدم أبو ذر فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان منظره يميزه بين العالم، وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فتقدم إليه وقال: عِم صباحاً يا أخا العرب، هذه تحية الجاهلية، يقول امرؤ القيس في قصيدته الرائعة، المشرقة، ومع أنها جاهلية وثنية، لكنها جميلة السبك يقول:-
ألا عِمْ صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العُصُر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد منعم قليل الهموم لا يبيت بأوجال
فقرأ عليه الصلاة والسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قام فوقف على الصفاء، فنادى بأعلى صوته أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فاقترب منه الجاهليون فضربوه بالحجارة، حتى أغمي عليه، فأتى كالثوب الأحمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: اصبر فإنك لن تستطيع أن تجهر بدعوتك الآن، فإذا سمعت أني خرجت فتعال؛ فعاد رضي الله عنه بعد أن تعلم الصلاة داعية يحمل إيماناً، وديناً، ولو كان فينا اليوم أفراد مثل أبي ذر لصلح الحال بإذن الله.
وصل إلى قبيلته فجمعها كلها، جمع القبيلة أمامه في البادية، قال: دمي من دمكم حرام، هدمي من هدمكم حرام، وقال لزوجته: ابتعدي ولأبيه ولإخوانه، حتى تؤمنوا بالله وأن محمداً رسول الله، فآمن ما يقارب الثلثين من قبيلته، وسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام هاجر إلى المدينة، فأخذ المسلمين في قوافل غفار، واتجه إلى المدينة، ثم لما دخل إلى المدينة ظنوه جيشاً غازياً للمدينة، فخرج لاستقباله، وعانقه صلى الله عليه وسلم وقربه، فكان من أحب الناس، وأقربهم إلى أبي ذر.
قال: عِم صباحاً يا أخا العرب، فقال عليه الصلاة والسلام: {أبدلني الله بتحية خير من تحيتك، قل السلام عليكم ورحمة الله، قال: السلام عليك ورحمة الله، فرد الرسول صلى الله عليه وسلم السلام عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ممن أنت؟ قال: من غفار، فتبسم عليه الصلاة والسلام ورفع طرفه إلى السماء} تبسم؛ لأن غفاراً كانت قبيلة تسرق الحجاج، مهمتها فقط قطع القوافل، فكيف يهتدي هذا وهو من غفار.
وفي حديث له شواهد أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، فتخلف أبو ذر براحتله، فأخذ ما عليها من متاع وترك الراحلة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أين أبو ذر؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يلحق بنا؟ وأراد الله به خيراً، ورآه صلى الله عليه وسلم من بعيد، فقال: كن أبا ذر، كن أبا ذر، وأشرف بطلعته البهية، فإذا هو أبو ذر، قال: {رحمك الله يا أبا ذر! تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك} وعاد مع الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه قال له صلى الله عليه وسلم: {إذا بلغ البناء سلعاً} وهذا عند الذهبي بسند جيد: {إذا بلغ البناء سلعاً -وهو جبل بـ المدينة - فاخرج من المدينة} يريد أن يبقى صافياً قوي الإيمان، حار التوحيد، ما يشوبه شيء من الدنيا، فلما بلغ البناء جبل سلع، خرج من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الربذة، بغنمه وخيمته.
لا طفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى أُحَسَّا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
خرج إلى الصحراء.