للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[جود ابن المبارك رحمه الله]

كان ابن المبارك إذا أراد أن يحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيجمعون نفقاتهم جميعاً، هذا عنده مائة درهم، وهذا مائتا درهم، وهذا ثلاثمائة درهم، فيأخذها في صرة ويكتب اسم صاحبها على الصرة، ثم يضعها في غرفة، فيظن الحاج أنه يحج بنفقته، فإذا حج بهم أطعمهم وسقاهم وكساهم وتنقل بهم، فإذا انتهوا من الحج ذهب بهم إلى المدينة، فإذا زاروا المسجد وسلموا على الرسول عليه الصلاة والسلام سأل كل واحدٍ عن حاجته، لأنه كان غنياً من أغنياء العالم الإسلامي في عهده، والإسلام لا يعترف بالدروشة، أن تضيع المال وتقول: الزهد الزهد؛ كلنا فانون رائحون! لا.

بل يعترف أن تكون غنياً تخاف الله، تملك المال وتصرفه في مصارفه.

كان عنده مئات الألوف من الدراهم، حتى لامه العلماء، مثل سفيان الثوري وإسماعيل بن علية والفضيل بن عياض لاشتغاله بالتجارة، فقال: [[والله لولاكم ما اشتغلت بالتجارة]] لأنه ينفق عليهم كل سنة.

ولذلك كان يعطي سفيان الثوري عشرة آلاف درهم كل سنة، ويعطي الفضيل مثله، نفقاتهم كلها من عند ابن المبارك.

المقصود: فلما انتهوا من الزيارة قال: أحد منكم يريد هدية لأهله؟ فيشتري لهم، ثم يرتحل فإذا وصل إلى خراسان، دعا أهل خراسان في وليمة عامة مع الحجاج ومع ذويهم وأهاليهم وضيفهم، ثم دعا الحجاج ورد لكل نفقته مكتوب اسم صاحب النفقة عليها، قالوا: كيف؟ وأين نفقتنا في الحج؟ قال: أما سمعتم في الحديث أنه يبارك للحاج في نفقته؟ فقد بارك الله لكم في نفقتكم.

حج مرة فوصل إلى الكوفة، يقولون: كان إذا ارتحل كأن موكبه موكب ملك، حتى يقولون: إنه يأخذ الدجاج المشوي على اثني عشر جملاً، وكان يطعم الناس الفالوذج، وهي أكلة طرية لو رأيتموها لسال لعاب الواحد منكم، فكيف لو أكلها، قالوا لـ أبي يوسف القاضي: الفالوذج والبالوذج أحسن؟ قال: لا يحكم على غائبين -وهو قاضي الدنيا- لا بد أن أراهما في صحنين ثم أحكم، فقدموهما في صحنين، فأكل من هذا لقمة وأكل من ذاك لقمة، فقال: كلما أدلى هذا بشهادة أدلى هذا بشهادة، حتى صفى الصحنين ثم قال: كلهم سواء في الميزان.

فـ ابن المبارك كان يطعم الناس الفالوذج، وكان يسرد الصيام سرداً، وكان يدور ويغرف من القدور المرق للناس في الصحون.

لما حج ووصل إلى الكوفة، وهو في طريقه يخترق من خراسان يريد مكة، فمر بـ الكوفة فوجد أهل الكوفة في سنة مجدبة، في قحط لا يعلمه إلا الله، بلغ بهم الجوع إلى أن خرجت جارية من بيت إلى مزبلة -قمامة- فأخذت غراباً ميتاً وذهبت به إلى البيت فقال لغلامه: بالله اذهب واسألها لماذا أخذت الغراب؟ فسألها فقالت: والله مالنا من طعام منذ ثلاث ليال إلا ما يلقى في هذه المزبلة، فلما أخبروا ابن المبارك، بكى وجعل يده على وجهه وقال: الله المستعان! نحن نأكل الفالوذج وهم يأكلون الغربان الميتة، قسموا هذه القافلة على أهل الكوفة وعودوا لا حج لنا هذه السنة، فقسموا على أهل الكوفة كل ما على القافلة من البر والزبيب والمأكولات والمطعومات، ورجع بدون حج من الطريق، فلما وصل إلى خراسان ونام أول ليلة.

رأى قائلاً في المنام يقول: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور -فعسى الله أن يتقبل منا ومنه الحج، فإن هذا من أعظم المقاصد التي قد تكون أعظم من الحج؛ لأن بعض الناس يتنفل بحج وجاره جائع بجانبه، وجاره فقير ولا يجد أكلة، فهذا من فقه ابن المبارك وعلمه، وهذا من سعة إدراك ابن المبارك - ونريد أن نكرر من تلاميذ الإسلام من مثل ابن المبارك.

<<  <  ج:
ص:  >  >>