[قصص الصالحين وحالهم عند ذكر الموت]
يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: {خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وجلسنا حوله، فنكس رأسه وأخذ ينكت الأرض بمخصرة في يده، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل من لحيته صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً}.
والله لو نعلم كما يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لضحكنا قليلاً ولبكينا كثيراً، لكننا أكثرنا من الضحك وأقللنا من البكاء، قست قلوبنا بالمعاصي والشهوات، وقست قلوبنا بالترهات، وقست قلوبنا بالبعد عن فاطر الأرض والسماوات، لما انغمرنا في الشهوات، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينادينا فيقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦].
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
ويل لعبد لم يتهيأ لتلك الحفرة ويل لعبد لم يتهيأ لذاك القبر ويل لعبد لم يتهيأ بالعمل الصالح ويل لمن صد عن سبيل الله ويل لمن قاطع بيوت الله ويل لمن هجر كتاب الله.
مر عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فرأى المقبرة فبكى، ثم توضأ وصلى ركعتين، فقال له أصحابه: لِمَ صليت الآن ركعتين؟ قال: تذكرت قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:٥٤].
عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي قال لابنه لما حضرته الوفاة: يا بني! ألبسني أكفاني وشد علي أكفاني؛ فإني مخاطب في قبري، وإني أخاف إذا قمت للفتان في قبري أن تسقط من على أكتافي أكفاني.
فلما أتته سكرات الموت بكى وحول وجهه إلى الحائط.
وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين فتح الله على أيديهم الفتوح، فقد فتح الله على يديه مصر، ودوَّنَ دواوينها وجند أجنادها.
فلما أتاه اليقين، وأتته سكرات الموت بكى بكاءً طويلاً، فقال له ابنه يحسن ظنه بالله ويحسن رجاءه في الحي القيوم: يا أبتاه! أنت من أصحاب رسول الله فلا تخف، أما فتحت مصر؟ أما جاهدت في سبيل الله؟ أما تقربت إلى الله؟ فالتفت إليه أبوه وقال: يا بني! لقد عشت حياتي على أدوار ثلاثة: كنت في الجاهلية قبل الإسلام، وكان أبغض الناس إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو تمكنت منه لقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من جثي جهنم، ثم أسلمت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فلما رآني رحب بي وهش وبش في وجهي وقال: {حيهلاً بك يا عمرو! فبسطت يدي لأبايعه فبسط يده، فلما بسط يده قبضت يدي، فقال: مالك يا عمرو؟ قلت: أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر الله لي ذنبي.
قال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم في وجهي: أما علمت يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها} فوضعت كفي في كفه ويميني في يمينه، وبايعته على لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فكنت معه، إذا حل حللت معه، وإذا سافر سافرت معه، وإذا أقام أقمت معه والله! ما كنت أستطيع أن أملأ عيني من وجهه حياء منه والله لو سألتموني أن أصفه لما استطعت أن أصفه والله ما كنت أنظر إليه إجلالاً له، فلو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم تخلفت بعده فلعبت بي الدنيا ظهراً لبطن، فوالله! ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار، لكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله، هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قبض يمناه على هذه الكلمة العظيمة.
قال ابنه عبد الله: فلما أتينا لنغسله فتحنا كفه فانقبضت على لا إله إلا الله، وجئنا ندخله في كفنه ففتحنا يده فانقبضت على لا إله إلا الله، فدخل في القبر بلا إله إلا الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧].
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فَحَواه لحد ضيق
خرص إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
يقول ابن عوف رضي الله عنه: [[خرجت مع عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فلما وقفنا على مقبرة بقيع الغرقد اختلس يده من يديه -وكنت قابضاً على يده- ثم وضع نفسه على قبر وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة فأعضد! أنسيت يا بن عوف هذه الحفرة؟! قال: فأبكاني والله]].
فالله المستعان على ذاك المقام، وعليه التكلان أن يثبتنا وإياكم يوم يثبت أهل طاعته فلا يخذلون، ويوم يثبت أهل البر من عباده فلا ينسون، ويوم أن يلهمهم رشدهم عند سؤال الفتان في القبور؛ فينطقون بلا إله إلا الله قوية من قلوبهم، نسأله التثبيت لنا ولكم ولكل مسلم، فمنه التثبيت ومنه العون ومنه السداد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.