للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حال المؤمنين وقت الشدائد]

كان خالد بن الوليد يستبشر بالصداع وبالحمى، وهي علامة الخير في الرجل؛ لأن المنافق دائماً بدين سمين لا يتأثر أبداً، تجده في الحياة منعماً يعيش في رغد لكنها في الحقيقة عذاب، وحياة ضنك ولو أنها في الظاهر رغد يقول أبو تمام:

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

والحمى تأتي الصالحين كثيراً، وسبب موت أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالحمى فقد دخل عليه الصحابة وقالوا له: [[يا خليفة رسول الله! ماذا يوجعك؟ قال: الطبيب يدري، قالوا: أشكيت أمرك إلى الطبيب؟ قال: نعم.

قالوا: ماذا قال؟ قال: إني فعال لما أريد]] هو الله عز وجل، فأخذها أحد الناظمين وقال:

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم على الذي لا يرحم

وبعض الناس يقول أمام الناس: أنا مريض من عشرين سنة سبحان الله! تشكو الله الذي فوق سبع سماوات أنه أمرضك وإذا عافاك لا تخبر الناس! والله أمر بكتم الأمراض لتبقى سراً بين العبد وبينه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما النعمة فقال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:١١] وفي سنن البيهقي بسند حسن: {إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه}.

وهذا الوزير ابن هبيرة الحنبلي الكبير وهو ولي من أولياء الله صاحب كتاب الإفصاح يقول لما حضرته سكرات الموت: فقدت عيني هذه من أربعين سنة والله ما علمت زوجتي وهي معي في البيت، لأن الشكوى على الله، عجيبة سيرته أوردها صاحب طبقات الحنابلة وسير أعلام النبلاء وهو من الحفاظ الكبار، حج بالناس وهو وزير الدولة العباسية فانقطع الماء في منى فرفع يديه يستسقي فنزل الماء والغيث من السماء وفيه ثلج، فبكى وقال: يا ليتني سألت الله المغفرة.

والخليفة المستنجد أعجب بوزيره فقال:

صفت نعمتان عمتاك وخصتا فخيرهما حتى القيامة يذكر

وزهدك والدنيا إليك فقيرة وزهدك والمعروف في الناس ينكر

ثم يقول:

ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا الـ مظفر إلا كنت أنت المظفر

كل ما نوى له أحد من المبتدعة أتى من تحته؛ لأن الله ينصر أولياءه، ومما يجدر أن نشير إليه أن الأحنف بن قيس ذكر الذهبي في ترجمته أنه فقد عينه ثلاثين سنة وما أخبر بها أحداً لكن من يستطيع هذا! الزكام إذا أصاب بعض الناس اليوم أخبر أهل الحي وعطس في المسجد وشكا وبكى وناح وقال: ثلاثة أيام وأنا في هذا الزكام، اللهم ارفعه عنا اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، تقوم القيامة من أجل الزكام فقد جعلنا مستوياتنا وقلوبنا في هذه الدرجة!!!

وعمران بن حصين ذكر عنه ابن حجر في الإصابة أنه مرض أربعين سنة، فما قام من على الفراش حتى كانت الملائكة تصافحه في السحر بأيديها، قال ابن تيمية: نعم.

صافحته في السحر بأيديها فلما اكتوى تركت مصافحته.

وقالوا عن أيوب عليه السلام أنه مرض ثمانية عشر سنة فقالوا له: ادع الله بالشفاء، قال: أنا تشافيت خمسين سنة فإذا تساوى المرض والعافية دعوت الله، بقيت سنوات كثيرة، لكن من يستطيع هذا إلا أهل الصدق عند الله! أما نحن فكما قال الفضيل بن عياض لما قرأ قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١] قال: اللهم لا تبلونا فتفضحنا.

الستر الستر فإن العملة إذا عرضت على الصراف أخرج البهرج منها، ما كل شيء يدخل النار فيخرج ذهباً أحمر فإن بعضها يخرج فحماً فنحن نسأل الله العافية ألا يبلونا فيفضحنا.

وقالوا عن الإمام أحمد كان ذهباً فدخل النار فخرج ذهباً أحمر في فتنة القول في خلق القرآن، على أنه نحيف هزيل لا يجد اللحم إلا من الأضحية إلى الأضحية، عنده بقشة فيها كسار شعير، يطوف الدنيا ويسعى الفراسخ في جمع الأحاديث من اليمن وخراسان ومصر وبغداد ودمشق حتى يقول ابنه: لقد رأيته أحياناً تكاد هذه -أي: اللحم الذي تحت خذيه- تلتصق بهذه من الضعف، كان يصبغ لحيته بالحناء وكان ربما انحنى من الهزال والتعب، يخرج إلى السوق يقتضي الحطب على يديه فيأتي أهل السوق وبعض الوزراء من بني العباس يأخذون الحطب لأنه إمام أهل السنة والجماعة فيقول: نحن قوم مساكين، لولا فضل الله لا فتضحنا، فلما أتت فتنة القول بخلق القرآن وجاء الحزب البدعي التحالفي ضد أهل السنة؛ كان هو الإمام المعتبر وكان أسداً هصوراً مثل الليث إذا غضب، قامت الدنيا وقعدت وطوق بيته بالجيش وبالحرس وسلت السيوف عند أذنيه وهدد بالموت فقال: لا.

ولا يكون هذا، وفي الأخير رفع الله منزلته لما صبر: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤]:

علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات

هذا يقال في الإمام أحمد وفي أمثاله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>