ومن المعالم الأخرى في حياته صلى الله عليه وسلم والتي تؤخذ من هذا الحديث: مصاحبته صلى الله عليه وسلم للقرآن، وعيشه معه وتدارسه لآياته مع جبريل عليه السلام، فهذا الشهر شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:١٨٥] فكان إذا دخل عليه الشهر صلى الله عليه وسلم يهيئ نفسه، ويخفف من ارتباطاته ومشاغله، ليعيش تدبر القرآن وقراءته.
والقرآن أخذ الحظ الأوفر والدقائق الغالية، والساعات الثمينة من حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كتابه الوحيد ومعجزته الكبرى، أرسله الله في الدنيا معجزة لا يضاهيها أي معجزة؛ لأن المعجزات تنصرم وتنتهي إذا مات أنبياؤها، كالعصا في عهد موسى فإنها انتهت بانتهائه عليه السلام، وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في عهد عيسى فإنها انتهت بانتهائه عليه السلام، ولكن القرآن أخذ يشق طريقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأخذ يثبت جدارته، ويعلن قوته، ويبدي دعوته في قوة وخلود ويخاطب الأجيال.
فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل أكبر وقت للقرآن هو وقت رمضان، ولذلك سئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم، كيف كان خلقه عليه الصلاة والسلام؟ فقالت:{كان خلقه القرآن} فهو يعيش مع القرآن أينما حل وارتحل، وإذا وجد وقت راحة وإقبال قلب، وسفر روح إلى الله شغل هذا الوقت بالقرآن.
في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد طلابه وتلامذته: {اقرأ علي القرآن، قلت: يا رسول الله كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! -ما أحسن هذا الأدب! وما أجل هذا الحياء! - قال: اقرأ علي القرآن فإني أحب أن أسمعه من غيري} أحب أن أتلقاه غضاً طرياً من غيري إذا قرئ علي.
فانطلق ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يقرأ، والرسول عليه الصلاة والسلام يُنصت، فلما بلغ قوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}[النساء:٤١] قال: {حسبك الآن قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان عليه أفضل الصلاة والسلام} تأثر الحبيب بكلام حبيبه، وتذكر صاحبُ هذا الكلام سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي أنزله، والذي تكلم به من فوق سبع سماوات، فعندها بكى صلى الله عليه وسلم.