للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نكبة ابن عبَّاد الأندلسي

ويُنكب المعتمد ابن عبَّاد سلطان الأندلس، وقد غلب عليه الترف، وغلب انحرافه عن الجادة، وكثَّر الجواري في بيته، والدفوف والطنابير، والعزف على الموسيقى، وسماع الغناء الغربي من غناء الإفرنجة، والكأس بعد الثانية ليلاً، فأراد الله أن يؤدبه فاستنجد بـ ابن تاشفين في تونس ليجيره، فدخل بجيش جرار، ظاهره من قبله الرحمة وباطنه من قبله العذاب!!

دخل بجيش موحد فلما نصره الله على الغزاة في الأندلس أنزله ابن عبَّاد يضيفه في الحدائق والقصور والدور ويرحب به ويكرم فخامته على هذا النصر، وكان ابن تاشفين كالأسد ينظر في مداخل المدينة وفي مخارجها ومتى يستولي، وبعد ثلاثة أيام هجم على ابن عبَّاد وقيده، وسَلَب مُلكه، وأخذ دوره، ودمر قصوره، وعاث في حدائقه، ونقله إلى أغمات محبوساً، لقد كان شجاعاً ابن عباد، ولكنه إذا نزل القدر عمي البصر.

أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا أرهبه وإذا ما جاء لا يغني الحذر

{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:٤٥].

تقلد ابن تاشفين زمام الحكم، وادعى أن أهل الأندلس استنجدوا به، وأنه يريد أن يقيم حكومة ليبرالية في الأندلس بدل ابن عبَّاد، وأن ابن عبَّاد كان ديكتاتورياً مستبداً ظالماً، فمرت الأيام وإذا ببنات ابن عبَّاد يصلنه في السجن حافيات باكيات كسيفات جائعات، فيبكي عند الباب، ويودع البنات وقلبه يتقطع، وهو يقول:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

ما هذه الحياة؟!

برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا

إلى آخر ما قال، وهي بديعة أبكت الناس.

ابن اللبانة شاعر الأندلس زار ابن عبَّاد في أغمات؛ فأدخل عليه في السجن، فلما رآه يقول: رأى عليه كساء بلا إزار، فبكى ابن اللبانة بكاءاً عظيماً، ثم قال:

تنشَّق رياحين السلام فإنما أخض بها مسكاً عليك مختما

وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة فقد كنت ذا نعم وقد كنت منعما

ثم يقول:

بكاك الحيا والريح شقت جيوبها عليك وناح الرعد باسمك معلما

وهي قصيدة بديعة أوردها الذهبي ومجَّدها، وعلى كل حال إنما هذه نتيجة الصدوف، والمقصود: كيف عاش هذا الأدب الحي؟ وكيف أحيا في هذه الأمة الروح؟ رثى نفسه، ورثى حياته، ورثى بناته، وأتاه الشاعر يسليه بقصيدة معه وأبكاه، وبكت الأمة مع ابن عبَّاد ولولا هذه القصائد ما سمعنا بـ ابن تاشفين ولا بـ ابن عبَّاد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>