[أخبار العباد]
هذا الدرس سوف يكون أقرب إلى الآيات والأحاديث والسيرة منه إلى بعض الخلافيات, وإذا كان الأمر كذلك, فإن سير الصالحين أحسن ما يؤخذ في هذا الباب, وأنا أدل نفسي وإخوتي على مطالعة أخبار الصالحين كـ الأسود ومسروق وأحمد ومالك وابن المبارك , وهؤلاء الملأ بعد الصحابة كانوا في انقطاع مع الله عز وجل ومتبتلين له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأنا إذا ذكرت نماذج فإني ألزم نفسي وإياكم أن تجعلوها على السنة, فإن وافقت فبها ونعمت, وإن خالفت فاعلموا أنه اجتهاد من أصحابها الذين يريدون الخير.
١ - الأسود بن يزيد:
أما الأسود بن يزيد فهو عابد عراقي, عالم, صام حتى اخضر جلده, ودخل عليه العلماء ووعظوه، قال: أصوم قبل أن يحال بيني وبين الصيام وأخاف من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:٥٤] من يصوم عني إذا لم أصم؟! ومن يصلي عني إذا لم أصل؟! أي: إذا مات.
٢ - محمد بن واسع:
ومنهم محمد بن واسع الأزدي كان من أعظم عباد الله عز وجل, قربوا له متكأً ليتكئ, فقالوا: اتكئ, قال: لا يتكئ إلا الآمن، وأنا خائف لأني ما جزت الصراط إلى الآن.
محمد بن واسع حضر معركة كابول مع قتيبة بن مسلم حاصر كابول التي ضاعت عندما ضاعت لا إله إلا الله, فلما طوقوا المدينة بمائة ألف, قال قتيبة بن مسلم وقد صفت الصفوف, وهبت رياح النصر, وتنزلت الملائكة من السماء، قال لجنوده: اذهبوا وابحثوا عن محمد بن واسع، أين هو؟ وماذا يفعل في هذه الساعة؟ فذهبوا إليه فوجدوه وقد صلّى صلاة الضحى وقد اتكأ على رمحه, ورفع سبابته إلى السماء؛ يدعو الله الواحد الأحد بالنصر, فرجعوا إلى قتيبة , فأخبروه، فدمعت عيناه, وقال: [[والذي نفسي بيده لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير, ومن مائة ألف شاب طرير]] ثم فتح الله عليهم بنصره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبتأييده, ثم بدعاء هذا الرجل الصالح, فلما أتت الغنائم سلموا لـ قتيبة رأساً كرأس الثور من الذهب, فقال لوزرائه: أترون أحداً من الناس يسلم إليه هذا الذهب فيقول: لا؟ قالوا: لا نرى أحداً يسلم إليه هذا فيقول: لا! قال: والله لأُرينكم أناساً من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الذهب والفضة أرخص عندهم من التراب, فدعوا محمد بن واسع فأتوا إليه وهو يصلي في خيمته, قالوا: ما لك تصلي في وقتٍ الناس فيه مشغولون بالنصر؟ قال: إن شغل النصر الشكر, فدعوه إلى قتيبة فأتى إلى قتيبة فقال قتيبة: خذ هذا, فأخذه, فتغير وجه قتيبة فقال لأحد جنوده: اذهب وراءه وانظر أين يضعه, ثم قال قتيبة اللهم لا تخيب ظني فيه, فمر فقير من المساكين يسأل فأعطاه محمد بن واسع كل هذا الذهب, فأعيد الفقير إلى قتيبة، وقال: أترون أنني أريتكم أن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من عند الذهب والفضة أرخص من التراب!
٣ - مسروق:
ومنهم مسروق , أتى رجل إلى الإمام أحمد من طلبة العلم والحديث, فجهز له الإمام ماءً ليقوم الليل! قبل السحر فلم يقم, فقال له الإمام أحمد: لم لم تقم؟ قال: أنا مسافر, قال: طالب علم ولا يكون له ورد في الليل! سبحان الله! حج مسروق فما نام إلا ساجداً, مسروق بن الأجدع عراقي, من تلاميذ ابن مسعود الكبار, حج من يوم ذهب من العراق إلى أن رجع, كان إذا أتاه النوم توضأ واستقبل القبلة ونام وهو ساجد.
وما عرف في العبادة مثله، منقطع النظير, حتى كانت ابنته تبكي بجانبه، وتقول: يا أبتاه هل قتلت أحداً؟ هل أخذت مال أحد؟ وهو يصلي ويبكي في الليل, فيلتفت ويقول: قتلت نفسي.
٤ - أحمد بن حنبل:
ومنهم أحمد بن حنبل صح عنه بأسانيد, أنه كان يصلي في كل يوم ثلاثمائة ركعة, قال ابنه عبد الله: فلما جلد كان يصلي مائة وخمسين ركعة.
٥ - ابن المبارك:
ومنهم ابن المبارك سئل كما في سير أعلام النبلاء: قال له رجل: ما رأيك أن أصوم يوماً وأفطر يوماً؟ قال: أنت تضيع نصف عمرك, صم الأيام كلها.
ولكن السنة تحكم على هذا والقصد أوْلى, لكن انظر إلى همة هذا الرجل كان يصوم الدهر، ويقول للرجل: كيف تضيع نصف عمرك؟ تفطر يوماً وتصوم يوماً, صم الأيام كلها, هذا من العباد.
٦ - عبد الغني المقدسي:
ومنهم عبد الغني المقدسي كان يصلي في اليوم ثلاثمائة ركعة وهو يبكي, وكان كلما صلّى ركعتين رجع إلى الماء ليتوضأ فتتقاطر لحيته ويداه بالماء, قالوا: ما لك وأنت على وضوء؟ قال: أنا لا يطيب قلبي ولا ينشرح صدري إلا عندما أرى قطرات الماء تنسكب من على لحيتي, فهو يحب العبادة.
سجنه السلطان في القدس وهو محدث الدنيا صاحب الكمال في معرفة الرجال B>>.
سجن في القدس مع المساجين وكانوا من اليهود والنصارى فلما كان بعد صلاة العشاء, قام فتوضأ فقام يصلي من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو يبكي, فلما أتى الصباح وقف اليهود والنصارى من المحبوسين مدهوشين مذهولين, فطرقوا الباب على الحارس, قال: ما لكم؟ قالوا: نريد أن نسلم, فذهب بهم إلى السلطان، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قال: ما لكم؟ قالوا: مرت بنا ليلة رأينا كأن القيامة قامت, قال: ولم؟ قالوا: حبس معنا عبد الغني المقدسي , فقام يصلي ويبكي فذكرنا لقاء الله فوقع الإسلام في قلوبنا, وهو ما تكلم بكلمة لكن بفعله.
حضر السلاطين في مجلسه فقام يقرأ الحديث فقطعه البكاء, فأخذ المسجد يبكي, وبكى كثير من سلاطين الأكراد أسرة صلاح الدين الأيوبي , ونور الدين محمود , هؤلاء حضروا درسه, وكان درساً عاطراً هائلاً ما سمع في التاريخ بمثله.
هذا من أخبار العباد, أو شيء من أخبارهم على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).