للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[فتح مكة، وفتح القدس]

وكان فتح مكة في رمضان، وأذان بلال يوم طلع من عند الحجر الأسود ليرتقي على الكعبة وليؤذن في الخالدين في رمضان.

وبلال أذن في الفتح مرتين:

المرة الأولى: في فتح مكة:-

يوم انتصر صلى الله عليه وسلم وأعلن كلمة التوحيد، فقال لـ بلال: أذِّن، واختار بلالاً بالذات؛ ليبين أن هذا المولى الذي أتى من أثيوبيا رفعه الإسلام فأصبح سيداً من السادات؛ وأن أبا جهل وأبا طالب والأصنام والأوثان أهل العروبة المزعومة والتراب السحيق قد ذهبوا إلى جهنم، فبدأ يطلق الصوت في الدنيا ليسمع الدنيا الأذان:

قم يا بلال أعد نشيدك في الورى للعالمين وسجل الإنذارا

ودع التماثيل التي قد صورت جذذاً ومزق عبدها الخوارا

فقام فأذن، فيقول صفوان بن أمية -وهو مشبوه الإسلام في تلك الفترة-: لطف الله بـ أمية مات قبل أن يسمع الغراب الأسود هذا على الحجر، وهو ليس بغراب أسود ولكنه منادي الأرض يستقبل نور السماء.

المرة الثانية: في فتح القدس:-

وأذن بلال مرة ثانية عندما دخل عمر بيت المقدس فاتحاً -كما يذكر بعض المؤرخين- يوم أخذ القدس السليبة، التي هي طعنة في قلب كل مسلم، والتي هي دمعة في عين كل مسلم.

القدس التي ضيعناها يوم ماتت في قلوبنا لا إله إلا الله.

أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ

رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا

نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصراتٌ وقُصَّرُ

وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمرُ

خرج عمر رضي الله عنه وأرضاه ليأخذ مفاتيح بيت المقدس، فأخذ راحلة واحدة ومولاه، فقال: أنت تركب عقبة، وأنا أركب عقبة -أي: أنت مرة وأنا مرة- قال المولى: كيف وأنت أمير المؤمنين؟! قال: والله لتركبن وقتاً وأنا وقتاً، فإذا ركب المولى قاد عمر الجمل، وإذا نزل يقود ركب عمر، واقتربوا فقال عمرو بن العاص: خيبتنا يا أمير المؤمنين - عمرو بن العاص كان أمير إقليم - وقال له: أين الخدم؟ أين الحشم؟ أنت خليفة، والنصارى ينتظرونك؛ لأنه دوخ الدنيا، فالنصارى على أسطح المنازل.

وقد كان عمر يحكم من المحيط إلى الخليج بضعاً وعشرين دولة، فلما اقترب عمر من بيت المقدس أتت نوبة المولى ليركب، قال: يا أمير المؤمنين! وصلنا، فيقول عمر للمولى: أهي عقبتك أو عقبتي؟ قال: هي عقبتي، قال: والله لتركبن.

وأتى عمر يقود الجمل، والتفت النصارى وقالوا: من هذا؟ قالوا: الخليفة فبكوا.

فهذا منظر يبكي وهو منظر يقوي الإيمان في القلوب، وهو منظر أعظم من آلاف المحاضرات والكتابات والرسائل، فأخذ عمر يخوض في طين عند مدخل بيت المقدس يرفع ثيابه ويقود الجمل ثم دخل فصلى ركعتين، وقال: يا بلال! أذِّن، قال: يا أمير المؤمنين! ما أذنت لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: عزمت عليك أن تؤذن فقام فرفع الصوت بالأذان فبكى الناس.

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى

فهذا أذان بلال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>