للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أشد الناس خوفاً من الله عز وجل

كان السلف أشد الناس خوفاً من الله؛ لأنهم أعرف الناس به.

وجاء في كتاب الإيمان في صحيح البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أخوفكم وأعلمكم بالله أنا} وصدق عليه الصلاة والسلام، فهو أخوفنا لربه، وهو أخشانا لمولاه وأقربنا منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

روى ابن مردويه بسنده عن بلال قال: {مررت قبل صلاة الفجر أوْذِنُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فإذا هو يبكي، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما الذي يبكيك؟ قال: يا بلال! أنزلت عليَّ آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١]}.

إن وقاية عذاب النار وغضب الجبار تكون بالخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى وبمراقبته جل وعلا.

إن العبيد إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرارِ

وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النارِ

فالعتق من النار بالخوف من الواحد القهار، ومراقبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

وأُثِر عن إمام أهل السنة والجماعة، أحمد بن حنبل أنه كان إذا جلس في البيت وحده تربع وجلس وعليه السكينة والخشوع، فإذا ظهر أمام الناس لا يرى عليه ذاك الخشوع، فسئل عن ذلك فقال: "إن معي رقيباً يجالسني"، وصدق رحمه الله، فإن الله عز وجل كما في الحديث القدسي الصحيح يقول: {أنا جليس من ذكرني} وفي حديث أبي هريرة: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه}.

حتى يقول الإمام الشافعي: " لما ودَّعت الإمام مالك، قلت: أوصني يا أبا عبد الله! قال: إن عليك نوراً؛ فلا تطفئ نورك الذي أعطاك الله بالمعصية، ولا يردعك عن المعاصي والذنوب إلا الخوف من الله عز وجل ومراقبة الله، ولذلك يتحسر المتحسرون عند السكرات.

وفي صحيح مسلم في كتاب الإيمان عن ابن شماسة المهري، قال: [[حضرت عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة وهو في مصر فأخذ يبكي طويلاً ويحول وجهه إلىّ الجدار، فأخذ ابنه عبد الله الزاهد يرجيه ويحسِّن ظنه بالله، ويقول له: يا أبتاه! أما أسلمت؟ أما ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش ذات السلاسل؟ أما فتحت مصر؟ أما حسَّنت منقبتك في الإسلام؟ وهو لا يزداد إلا بكاء، قال: فلما طال الحوار بينهما التفت إلينا عمرو بن العاص وقال: يا أيها الناس! - وقد قلصت دموعه من عينيه - إني عشت حياتي على طباق ثلاث:

كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، وكان أبغض الناس إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو تمكنت منه لقتلته، فلو مِتُ على تلك الحال لكنت من جثي جهنم.

ثم أسلمت - وهذه أحسن الذكريات عند عمرو بن العاص، داهية الإسلام وأرطبون العرب، الذي رمي به أرطبون الروم - قال: فقدمت المدينة، فلما رآني صلى الله عليه وسلم حيا بي، وقال: أهلاً وسهلاً، وهش في وجهي وبش وأجلسني وقال: ابسط يدك لأبايعك، فلما بسط صلى الله عليه وسلم يده قبضتُ يدي، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عمرو! قلت: أشترط، قال صلى الله عليه وسلم: وماذا تشترط؟ فقلت: أشترط أن يغفر لي ما أسلفت في الجاهلية، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما تدري يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها؟ قال عمرو: فأسلمت، فوالله ما كان من أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، والله لو سألتموني الآن أن أصفه ما استطعت أن أصفه، فلو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة.

ثم تخلفتُ بعده فلعبِتْ بي الدنيا ظهراً لبطن، فوالله ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار! ولكن معي كلمة أحاجُّ لنفسي بها عند الله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم قبض يده عدا السبابة، وأُدخِل في أكفانه ويده مقبوضة، وأُدخِل قبره ويده مقبوضة]].

<<  <  ج:
ص:  >  >>