[الكلام عن راوي الحديث: ابن مسعود]
قال: أخبرنا صاحب هذه الدار، وصاحب هذا الدار ابن مسعود، فقد كان في العراق كالسراج المنير، وكان من ألطف الناس، يقول حذيفة: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن أقربهم إلى الله وسيلة هو ابن مسعود، وقالوا: ما رأينا رجلاً أقرب دلاً ولا سمتاً ولا هيئة ولا تقوى بالرسول صلى الله عليه وسلم من ابن مسعود.
وذكروا عن الإمام أحمد أنه كان من أعجب الناس بتقواه وبزهده وورعه، وذكروا أنه أخذ هذا الورع من هشيم الراوية الكبير، وأخذه هشيم عن سفيان الثوري وأخذه عن إبراهيم النخعي، وأخذه إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس تلميذ ابن مسعود، وأخذه علقمة عن ابن مسعود وابن مسعود أخذه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
سندٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وروى النعمان عن ماء السماء كيف يروي مالك عن أنس
قال: أخبرني صاحب هذه الدار، وأومأ بيده إلى دار عبد الله، وكانت دار عبد الله التي أشار إليها، قريباً من المسجد ليقرب من الفتيا والتعليم، وكان يحدث الناس كل يوم خميس لا يزيد على ذلك، فقال له أهل العراق: وددنا يا أبا عبد الرحمن! أنك تحدثنا كل يوم.
من حسن حديثه، كأنه الثمر المستطاب، أو كأنه الشهد المصفى، أو كأنه الماء الزلال، أو كأنه الهواء العليل على القلب السقيم، قالوا: [[وددنا أنك تحدثنا كل يوم، قال: والله! إني أتخولكم بالموعظة كما كان صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا]] يتخولنا، قيل: يتحولنا وأقربها يتخولنا من التخول خالاً بعد خال.
فـ ابن مسعود لذكائه وفطنته في فقه الدعوة، كان يتكلم مع الناس وهم يشتهون حديثه؛ لأنّ بعض الدعاة يكلم الناس سرمداً ليلاً ونهاراً وصباحاً ومساءً وصيفاً وشتاءً، حتى يقول له الناس من الاستثقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
وهذا الأعمش قيل له: أنزلت في الثقلاء آية؟ قال: نعم.
قالوا: وما هي؟ قال قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:١٢] وذكر عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته، أنه قال: إذا صلى عن يمينك ثقيل فسلم تسليمةً تكفيك.
وهذه فتوى تسمع ولا يعمل بها، ولكنا على عهدة الأعمش الزاهد العابد النحرير رضي الله عنه وأرضاه ورحمه الله، فهو الذي يقول: ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة ستين سنة، لكنه كان صاحب دعابة كـ الشعبي.
يقول: صاحب هذا الدار وأومأ بيده إلى دار عبد الله، ربما كان يتحدث في داره، وربما يتحدث في المسجد، وكان إذا قام يتحدث أخذ العصا واهتز هو والعصا سيان، فقالوا له: مالك؟ قال: أتدرون عمن أتحدث؟! أتحدث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقام يتحدث في مسجد الكوفة؛ فرأى حية وهو يخطب الناس قد دخلت المسجد؛ فهاب الناس منها، وكان من أصغر الناس جسماً، ربما كان أصغر الحضور جميعاً، فانطلق من بين الصفوف وأخذ يضربها حتى قتلها.
وهو في أثناء طريقه سمع رجلاً يقول: يا ابن مسعود! من أين تأتي بهذه الأحاديث؟ فاقترب منه؛ فشم منه رائحة الخمر، فقال: [[أتكذب بالكتاب وتشرب الخمر؟! والله لا تفارق المسجد حتى أجلدك ثمانين]] فجلده في طريقه، قالوا: فقتل حية، وجلد مجرماً، وعاد يخطب، كان نحيل البنية، لكن بين جنبيه قلب كبير.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، والعقلاء أسئلتهم مفهومة، أما سؤال البلهاء فلا يعرف، ولذلك كانت أسئلة الناس عند الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم بعقل الرجل، دل على اختصاصك بالعقل سؤالك للعاقل أو للعالم، قال أنس في صحيح البخاري: [[كان يعجبنا الرجل اللبيب أن يأتي من البادية فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع، فيخبره عليه الصلاة والسلام ونحن نسمع]] قال: اللبيب العاقل؛ لأنه يوجد رجلٌ لا يجيد الأسئلة فلا يستفيد الناس منها.
ولذلك كان من أجود الناس سؤالاً ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل} وهذا ليس مثل سؤال الأعراب، فإن أحدهم يأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فيربط ناقته في الوادي ويقول: {أين ناقتي يا رسول الله؟} والثاني يقول: {أفي الجنة ثريدٌ يا رسول الله؟} أي: لحم بخبز، والثالث يقول: {يا رسول الله! أيزرع هذا الزرع والنخل في الجنة؟ قال: نعم.
فيها ما تشتهي الأنفس، قال: إذاً هذا يعجب الأنصار} لأن الأنصار أهل نخل، لكن هذه الأسئلة ما كانت ترد على علماء الصحابة ومنهم ابن مسعود.